اختفاء الشعوب في قبعة الأمة

اتسم الشعر العربي في العصر الجاهلي، مروراً بصدر الإسلام، فالأموي فالعباسي .. إلخ، بالهجاء المباشر الصريح بأسماء الأشخاص والقبائل بلغة فضائحية مقذعة أحياناً .. وقد يكون من أشهره ما عُرف بـ (النقائض) بين جرير والفرزدق والأخطل، واستمر الأمر على هذه الحال إلى ما بعد حركة التحرر العربي من الاستعمار، ومجيء الأحزاب والقادة العسكر، حيث فقد صداميته وصراحته المباشرة ومال إلى التلميح والترميز والتعميم، ولم يعد الشاعر الحديث يجرؤ على الهجاء بالاسم الصريح لهذا الزعيم أو ذاك السياسي، بل لا حتى هجاء حزب بعينه. ولعل حادثة الاعتداء العنيف على الشاعر السوري الكبير بدوي الجبل (سليمان الأحمد) بسبب هجائه حزب البعث قبل نحو ستة عقود أشد دلالة على ذلك.
لكن .. ما الذي جعل الشاعر العربي في العصور السابقة جريئاً صريحاً في هجائه؟ فيما لم يعد الشاعر الحديث يجرؤ على ذلك؟ حتى إن أشهر شاعرين معاصرين أدمنا الهجاء البذيء وهما الشاعران العراقيان مظفر النواب وأحمد مطر، اللذان استأثرا بالذيوع والانتشار في جميع الأقطار العربية، منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، لم يشذا عن ذلك، فاعتصما أيضا بالتلميح والترميز والتعميم؟!
كان الشاعر العربي في الماضي يتحرك في فضاء حر، لا تحده هيمنة زعيم أو حدود بلد، فلم تكن مسألة السيادة الوطنية بمفهومها الحديث تلعب دورها في التحكم بحرية الحركة في المكان، وهو ما أتاح مجالاً للشاعر آنذاك أن يمضي حيث يشاء، وينجو بنفسه بعيداً عن أن تطوله يد حاكم أو زعيم، بينما ليس بوسع الشاعر العربي المعاصر الخروج من بلاده ساعة يشاء، فهو محكوم بالحدود السيادية للدولة، ومراكز العبور ومخافر الأمن وشروط سفر تقتضي إبراز وثيقة رسمية مصدقة بتأشيرة تأذن له بذلك، تسمى جواز السفر، فضلاً عن أنه لا يأمن على نفسه فيما لو غادر وطنه، فبعض السلطات العربية يدها طويلة، لا تراعي مواثيق ولا عهودا.
إن شعر الهجاء - مع كونه فناً دميماً، لا يخلو من براعة التصوير – قد لعب آنذاك دور الصحافة اليوم في حرية التعبير، أما لماذا تخلى شعر الهجاء المعاصر عن تلك الصراحة البشعة غير المأسوف عليها ولجأ إلى الترميز والتعميم، فلأن الشاعر يريد من ناحية التخفف من تأنيب الضمير، وإقناع نفسه بأنه يؤدي مسؤوليته في مواجهة الطغيان والفساد، ويريد من ناحية أخرى إلقاء العبء على كاهل المتلقي في تحويل العام إلى خاص، والمرموز إلى معلوم!
على أن المؤسف في الأمر أن الترميز والتعميم في شعرنا الهجائي الحديث امتد إلى عالم الكتابة، في المقالة والدراسة والبحث، وطغى على خطابها، فباتت تعج بالإحالة إلى إشارات، مثل: "عالمنا العربي" أو "الأمة العربية" أو "العرب" .. في طرحها لموضوع يناقش قضية اجتماعية أو دينية أو سياسية أو اقتصادية أو تربوية .. حيث يتم تعويم القضية في أفقها العربي، وكأن جميع البلدان العربية لها الظروف نفسها، وأن تقاليدها وعاداتها هي ذاتها، أو أن ثقافتها ووعيها بتاريخها لا تختلف فيما بينها .. وكأن الخليج كالسودان والمغرب كالشام ومصر كلبنان، وأن الإرث السومري والآشوري والفرعوني والفينيقي لا بصمة أنثروبولوجية له على شعوبه، وأنه لا أثر لنوع المستعمر، وأن مكونات البيئة من نهر وبحر وجبل وساحل وغابة وصحراء لا تلعب أدوارها في صياغة مخيال الشعوب ومزاجها وطرائق عيشها، ولا تؤثر فيها أنظمة حكمها وعقائدها .. فقد تم التعامل مع القضايا المختلفة للبلدان العربية المختلفة ككل متجانس.
حدث هذا بسبب هيمنة طويلة للنظرة الرومانسية للعرب، باعتبارهم أمة عريقة واحدة متجانسة. وهو منظور أسهمت الأطروحات القومية في تكريسه، كما لعب الهاجس الأمني الذي ضغط على الشاعر دوره المماثل في الضغط على الكاتب والباحث والدارس المعاصر أيضاً، فعمد إلى الاحتراس من التعيين والتحديد في المسألة التي يعرض لها، فضلاً عن دور النظرة الطهورية الشعبوية التي تنظر بها مجتمعاتنا العربية لنفسها في ممانعتها للكشف عن السلبيات أو توجيه النقد للظواهر والقضايا التي تمسها، واعتبارها ذلك ضربا من التشهير أو الازدراء، لا يصدر إلا عن ضغينة، علاوة على موقف المؤسسة الدينية التي قد ترى في الخوض في بعض القضايا الإشكالية نوعاً من التابو، أو الموقف الرسمي الذي قد ينظر إلى الأمر على أنه عمل كيدي يشكل تهديداً لشبكة الأمان الاجتماعي، يصب في مصلحة من يتربصون بالبلد السوء. ناهيك عن الاستخفاف بمنهجية البحث العلمي ومقوماته المعرفية والمعلوماتية والاستهانة بأمانة البحث ومسؤولية الكتابة، التي أفرزت عديدا من الباحثين والدارسين ممن لم يترددوا في إعادة إنتاج أعمال غيرهم واستنساخها بالتلفيق والترقيع أو الكتابات الإنشائية المكتبية الباردة، بمعزل عن الواقع والمصادر، فسادت الشكلانية والثرثرة والأوهام، وطغت على الموضوعية والعلم والفكر، فتكدست كتابات ممسوخة بالتعميم، تتيح لكل بلد أن يتنصل من هذه القضية أو تلك على أنها تعني الآخرين .. وهكذا اختفت الشعوب في قبعة الأمة، فلا كانوا ولا كانت! وراح التقدم يمشي مطرقا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي