«ناريندرا مودي» من عامل كافتيريا إلى قائد لكبرى الديمقراطيات

تدهشك الهند دوما. ليس بسحرها الشرقي وتلاوين عاداتها وطقوسها الغريبة، وليس بتاريخها وتراثها السحيق كواحدة من أعرق حضارات العالم فحسب، إنما أيضا بما تفرزه انتخاباتها التشريعية كل خمس سنوات. وإذا كان العرب قد اندهشوا يوم أن آلت رئاسة جمهورية الهند إلى أبوبكر زين العابدين عبد الكلام بسبب تسلقه سلالم المجد من بائع فقير للجرائد على أرصفة ميناء مدراس إلى عالم للصواريخ الباليسية والرؤوس النووية، ثم اندهشوا مرة أخرى وهم يرون لي ميونغ باك بائع الآيسكريم وجامع القمامة السابق يصبح رئيسا لكوريا الجنوبية، فمن باب أولى أن يندهشوا اليوم وهم يرون ناريندرا مودي يتأهب لقيادة كبرى ديمقراطيات العالم بعدما نجح في قيادة التحالف القومي الديمقراطي في الهند بزعامة بهاراتيا جاناتا إلى فوز ساحق على غريمه حزب المؤتمر في الانتخابات التشريعية الأخيرة، أي على نحو ما توقعناه في مقالات سابقة.
تعالوا نجول في السيرة الذاتية لـ "مودي" لنكتشف كم عانى الرجل حتى بلغ موقع القرار الأعلى في بلاده المثقلة بالمشاكل، لكنها المتحركة إلى الأمام بخطى وثابة.
في فترة صباه عمل مودي مساعدا لوالده في كشك لبيع الشاي كان يملكه الأخير على رصيف الخط الحديدي المار ببلدته فادناغار، لكنه في فترة مراهقته فضل أن يستقل عن والده فاشترك مع شقيقه في ملكية وإدارة كافتيريا للشاي بالقرب من المحطة الرئيسة للحافلات في بلدتهما، حيث كان مودي يحمل في إحدى يديه إبريقا معدنيا ضخما من "شاي الكرك" المطبوخ بالهال والقرفة والزنجبيل، وفي اليد الأخرى الأكواب الزجاجية ويدور بهما داخل الحافلة على الركاب.
لم يشغله العمل في هذه المهنة المتواضعة، لكن ذات المردود الجيد نسبيا، عن الدراسة. إذ كان ينظم وقته ما بين العمل والذهاب إلى مدرسته في بلدة فادناغار، حيث يقول من تبقوا على الحياة من مدرسيه في تلك الفترة إنه كان طالبا عاديا، لكنه كان خطيبا مفوها وصاحب شغف بالتمثيل والمسرح، وهما الموهبتان اللتان استخدمهما لاحقا بصورة جيدة في دغدغة عواطف الجماهير واستمالتها حينما قرر اقتحام دنيا السياسة. وبعد أن أنهى دراسته الأولية، نجح بشق الأنفس في تدبير مصروفات دراسته الجامعية إلى أن نال درجة البكالوريوس.
ويبدو أن الفقر وقسوة الحياة والأعباء العائلية الكثيرة دفعت الرجل إلى طلب أي وظيفة يقتات منها، فكان قبوله وظيفة مسؤول عن إدارة مركز التسوق الخاص بموظفي مؤسسة الطرق والنقل في غوجرات، حيث ظل يكدح في هذه المهنة حتى رأى أن الطريق معبد أمامه ليخوض غمار المعترك السياسي. وكانت البداية في 1970 حينما اختير منسق حملات بدوام كامل لجماعة راشتريا سواساميفيك سانغ، وهي جماعة هندوسية يمينية شبه عسكرية تأسست في 1925 وتعتمد على التطوع الذاتي بهدف حماية "قيم الأمة الهندوسية". وبعد أن نال مودي بعض الدورات الضرورية للصعود إلى مناصب المسؤولية الرسمية في حركة "سانغ باريفار" وهي عبارة عن ائتلاف يجمع كل التنظيمات القومية الهندوسية، أعطيت لمودي مسؤولية إدارة الجناح الطلابي في الحركة. تلك الوظيفة التي أبلى فيها بلاء حسنا فجعلت أنظار رؤسائه تتجه إليه وتحيطه بالرعاية إلى أن مكنوه من الوصول أولا إلى مناصب قيادية في ائتلاف بهاراتيا جاناتا، ثم مكنوه عبر الانتخابات الشعبية من الوصول إلى سدة الحكم كرئيس وزراء لحكومة غوجرات المحلية في 2001. ومنذ ذلك العام ظل مودي يفوز في كل انتخاب يُجرى في ولايته، ضاربا الرقم القياسي لجهة البقاء على رأس السلطة المحلية فيها.ويمكن القول إن أسباب الفوز المتكرر لمودي في انتخابات غوجرات المحلية هي نفسها الأسباب التي مكنته من الفوز أخيرا بقيادة الهند على حساب حزب المؤتمر بقيادة سونيا غاندي التي ارتضت حكم الشعب واعترفت بهزيمتها وتحملت مسؤولية الإخفاق. من هذه الأسباب أن مودي حقق في ولايته إنجازات اقتصادية مشهودة انعكست نتائجها إيجابا على مستوى المعيشة والخدمات ومعدلات الاستثمار والنمو، وهذا ما تحتاج إليه الهند اليوم من بعد ولايتين لحزب المؤتمر شهدتا تراجعا اقتصاديا ملموسا، خصوصا أن مودي يروج لنموذجه الاقتصادي الخاص المستمد إلى حد ما من النموذج الاقتصادي الصيني. فهو يرى أن ما تحقق في الصين ــ وبالتالي يجب أن يتحقق أكثر منه في الهند، التي تمتلك من القوة الناعمة ما لا تمتلكه الصين ــ يستدعي قرارات مركزية صارمة ضد الفساد والتلاعب والجرائم الاقتصادية، وأخرى سريعة للتعامل مع قضايا الارتقاء بالتعليم والخدمات والبنية التحتية والتنمية الريفية. لكن نموذج مودي يختلف عن النموذج الصيني في قضيتين هما: تشجيع الخصخصة، وعدم التهيب من العولمة، إضافة إلى تمسكه بقيم الحرية والتعددية المنصوص عليها في الدستور. ومن العوامل الأخرى التي مكنته من السلطة تعويل الناخب الهندي عليه للقيام بثورة إدارية تقضي على التسيب والبيروقراطية والرشوة. حيث إنه معروف بأنه إداري واقتصادي من الدرجة الأولى، ومجبول على حب العمل، ومنصرف عن الملذات ومباهج الحياة، ويخلو سجله من الفساد والإفساد.
وبطبيعة الحال هناك من الهنود ــ تحديدا المسلمون ــ من يتخوف من وجود مودي في السلطة بسبب ما قيل عن عدم تدخله لحماية مسلمي غوجرات من اعتداءات الهندوس عليهم في 2002، ما أوقع نحو ألف قتيل في صفوفهم، وهناك أيضا من يتخوف على علمانية الهند بسبب انخراط الرجل منذ شبابه في صفوف الحركات القومية الهندوسية، لكن مودي بات يدرك أبعاد هذه القضايا فصار حريصا على تبديد تلك المخاوف في كل مناسبة.
وجملة القول إن نجاح مودي من عدمه في إدارة الهند، وهو الذي يملك حزبه أغلبية برلمانية مريحة تتيح له الحكم دون شريك، وتمرير القوانين دون تلكؤ ــ 350 مقعدا من أصل مقاعد البرلمان البالغ عددها 543 ــ بات يعتمد على مدى قدرته على كبح جماح أنصاره من الهندوس المتطرفين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي