الأستاذ الجامعي والبرج العاجي

كل أستاذ جامعي يتمنى شيئين في مسيرته الأكاديمية لا سيما في الدول التي تيّسر له سبل عيش كريم ورغيد. أولا، بوده نشر أبحاث وكتب كثيرة، وثانيا بوده أن تأخذ هذه الأبحاث والكتب مكانها ليس فقط ضمن النطاق الأكاديمي المحدود بل خارج السياج الجامعي، حيث المجتمع الذي لا حدود لرغبته في المعرفة والتغير صوب الأفضل.
الأكاديميون بشر تأخذهم الغيرة ويأكلهم الحسد في أحيان كثيرة، ويتنافسون للاستحواذ على اهتمام الناس والمؤسسات وتبقى صومعاتهم أو كما نطلق عليها أحيانا أبراجهم العاجية عصية على الاختراق ليس فقط من قبل الناس بل لأن أغلبهم لا يود مغادرتها للقاء الناس.
ولنا نحن - الأكاديميين - ميزة أخرى، حيث نتباهى أحيانا كثيرة برونق وزخرفة ورصانة أسلوبنا من حيث اللغة والشكل والميثودولوجيا "منهجية البحث"، كل هذا للفوز برضى المقيمين الذين هم أكاديميون مثلنا وقلما نفكر برضى الناس أي المجتمع عمّا نكتبه.
وننسى أن أفضل الطرق للتأثير في المجتمع تكمن في مخاطبة الناس بلغة وأسلوب يمكنهم من استيعاب الأفكار والنظريات التي نتوصل إليها، وفي خلافه نبقى ندور ضمن صوامعنا وأبراجنا العاجية وتبقى، دورياتنا وأبحاثنا تدور ضمن الدائرة الضيقة التي تضمنا.
وهذا بالضبط ما حاول عالم الاقتصاد الشهير توماس بيكتي، الذي تطرقنا إليه في رسالة الأسبوع الفائت، تجنبه حيث ألف كتابا عبر صيته الآفاق واهتزت له الأروقة الجامعية وأخذ في الوقت نفسه بألباب الناس والمؤسسات وأصحاب القرار.
بيكتي لم يساوم أبدا على منهجية البحث العلمي، حيث لا يزال علماء الاقتصاد من حاملي جائزة نوبل والدوريات الأكاديمية يغدقون المديح على كتابه: "رأس المال في القرن الواحد والعشرين"، ولكن السؤال الأهم هو كيف صار الكتاب حديث الإعلام والناس، وكيف صار بإمكان الإنسان العادي قراءة هذا الكتاب الثخين المليئ بالأرقام والجداول بسلاسة ودون ملل؟
لن نصبح كلنا بيكتي، وهناك دائما أناس يعلو شأنهم وتتوجه الأنظار صوبهم، حيث يمنحهم الله من العلم والحكمة والفطنة والمثابرة ما يمكنهم من قيادة الآخرين بيد أنه بإمكاننا التعلم منه وتسخير القليل الذي نملكه ــــ وهو نعمة - في خدمة المجتمع ونساهم ولو بقدر قليل في تنويره وتغير مساره صوب الأحسن.
بعد قراءتي لكتاب بيكتي الذي في طريقه إلى أن يحدث ثورة في المفاهيم الاقتصادية في الغرب خرجت بانطباع أنه ربما لم يقل شيئا لم يخطر ببال أقرانه أو لم تشبعه الصحافة نقاشا أو لم يتحدث الناس عنه في مجالسهم. الهجوم على الرأسمالية ليس شيئا جديدا. إذا ما هو الأمر الذي جعل من بيكتي بين ليلة وضحاها واحدا من أبرز علماء الاقتصاد في العالم، ومن كتابه مادة للدراسة والتمحيص والاختبار، وربما في نهاية المطاف اتخاذ قرارات في أعلى المستويات؟
ما فعله بيكتي هو أنه لم يقف عند نقد الرأسمالية كونه يحبذ ما هو مناقض لها أو يؤمن مثل كارل ماركس أنها في نهاية المطاف ستأكل نفسها بنفسها أو تدمر ذاتها لأن في الحقيقة هذا لم يحدث حتى الآن ومعناه أن نبوءة ماركس لم تتحقق. ومن ناحية أخرى، لم يذهب بعيدا في مديحه للرأسمالية كما فعل سايمون كوزنيتس الذي حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1971 عن نظريته التي تقول إن ترسيخ النظام الرأسمالي سيؤدي في نهاية المطاف إلى تقليص الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
بيكتي استند إلى وثائق وعينات وأدلة استطاع من خلالها التوصل إلى سياقات تمر بها الدورة الاقتصادية تدحض ماركس وكوزنيتس في آن واحد. وقد آثار الكتاب موجة غير مسبوقة من النقاش والاهتمام في الولايات المتحدة حول دينامكية الرأسمالية لا سيما النمو الصاروخي الذي لا سقف له للثروة والمال الذي تملكه النخبة وخطر ذلك على المجتمع والناس واضعا أسطورة الحياة الأمريكية برمتها على المحك - ألا وهي أن الرأسمالية هي الوسيلة الوحيدة لتحسين الأوضاع المعاشية لكل الناس. وأظن أنه علينا العودة إلى بيكتي في رسالة قادمة أيضا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي