حاضرنا اليوم مؤشر مستقبلنا
أُتابع استقراء بعض ملامح الأعوام العشرين المقبلة التي تنتهي عند 2034، التي تعادل تماماً المسافة الزمنية بين وقتنا الراهن وعام 1994، أشرتُ في مقال الإثنين قبل الماضي "كيف سنكون بعد عقدين من الزمن؟" إلى بعض مقارناتها، وأنّ ضرورة التفكير المستمر والدائم في المستقبل تعد الأهم في أيّ مجتمع، استعداداً لما هو آتٍ منذ اللحظة الزمنية التي تتعايش مع تحدياتها وفرصها وتقلّباتها أي أمّةٍ كانتْ، وأنّ مهمةً استراتيجية كهذه المهمّة الجسيمة الحجم، تستهدف رسم "رؤية شاملة لمستقبل الاقتصاد الوطني"، تقتضي وجود دوائر فكرية رفيعة المستوى، يجب أن تتوافر لديها الصلاحيات والبيانات والأدوات والآليات اللازمة لإتمام مهامها بعيدة الأجل. أؤكد هنا مرةً أخرى على الركائز الثلاث لتلك الرؤية المستقبلية الشاملة، التي لا يمكن أن يقوم لها نجاح يُذكر دونها، وهي: الركيزة الأولى: رسْم رؤية شاملة لمستقبل الاقتصاد الوطني بالاعتماد على "فريق استشاري مؤهل مستقل". الركيزة الثانية: رسْم السياسات الاقتصادية، التي تلتزم تماماً بالمحاور التفصيلية للرؤية الشاملة أعلاه، وتنفيذها وفق برامج أداء سنوية "الأجهزة الحكومية المعنيّة". الركيزة الثالثة: متابعة الأداء والتنفيذ، والرقابة، والمحاسبة، وإعداد التقارير الدورية "نصف سنوية، سنوية"، ورفعها من قبل "فريق رقابي مستقل" إلى مقام رئيس المجلس الاقتصادي الأعلى.
لترتسم لدينا قراءةً استدلالية للمستقبل في أدنى حدود التنبؤ، بما يتيح لنا بعض تصورات المستقبل في منظور الأعوام العشرين المقبلة. على افتراض استمرار معدلات النمو السكاني بوتيرتها الراهنة "سعوديون ومقيمون"، وأخذاً في الاعتبار احتمال تراجع قيمها لنصف معدلاتها الراهنة، يُقدّر أن يصل حجم السكان في المملكة بنهاية 2034 ــ وفقاً لتقديرات المصلحة العامّة للإحصاءات والمعلومات، ومعدلات السكان غير السعوديين ــ إلى أكثر من 48.5 مليون نسمة "28.5 مليون سعودي، 20.0 مليون غير سعودي"، أيّ بنموٍ تراكمي للفترة يبلغ 61.7 في المائة مقارنةً بحجم السكان البالغ نحو 30 مليون نسمة بنهاية 2013 "20.3 مليون سعودي، 9.7 مليون غير سعودي". وفي حال شهدنا تحكّماً أكثر فاعلية تجاه الاعتماد على العمالة الوافدة "سيناريو آخر"، فقد يبلغ إجمالي عدد السكان بنهاية 2034 نحو 42.7 مليون نسمة "28.5 مليون سعودي، 14.2 مليون غير سعودي"، مخفّضاً النمو السكاني التراكمي للفترة 2014 ــ 2034 ليبلغ 42.2 في المائة، علماً بأنّ النمو السكاني التراكمي للفترة 1994 ــ 2013 بلغ 69.4 في المائة.
حينما يقف المخطط الاستراتيجي أمام مثل هذه التنبؤات السكانية، فإنّه سينظر إلى عددٍ كبيرٍ جداً من المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية وغيرها، التي تستوجب اتخاذ التدابير اللازمة استعداداً لها منذ اللحظة، فهناك سوق العمل "العمالة المدنية"؛ المتوقع أنْ يرتفع عدد طالبي العمل والقادرين عليه بموجب التقديرات السكانية للمواطنين إلى أكثر من 11.4 مليون عامل سعودي وسعودية بنهاية 2034، وهو ما يفوق العدد الراهن بـ 3.5 مرة! هذا بدوره يتطلب ضخّ مئات المليارات من رؤوس الأموال لأجل توسيع أعمال ونشاط استثمارات المشروعات الراهنة، وتأسيس الآلاف من المشروعات الإنتاجية الجديدة، بهدف إيجاد فرص العمل اللازمة لاحتواء تلك الملايين من طالبي العمل. في هذا السياق؛ كما يبدو دون أدنى شك أنّ سياسات إحلال الوظائف كما هو قائمٌ في الوقت الراهن، لن تُفلح على الإطلاق في استيعاب تلك الملايين من العمالة الوطنية، مع ضرورة الإشارة إلى أنّه وفقاً للدرجة المرتفعة للقبول في المرحلة الجامعية لدينا، التي تعد من أعلى المعدلات عالمياً "تتجاوز 90 في المائة"، مقارنةً بالمتوسطات العالمية بين 40 و45 في المائة في الدول المتقدمة. مع هذا الاعتبار سيتعاظم تحدّي إيجاد فرص العمل اللازمة لمخرجات التعليم العالي بين صفوف السكان.
كل ما تقدّم لا يقارن في تحدياته الجسيمة بما سيأتي! للقارئ الكريم أنْ يتخيل حجم التحديات الجسيمة القادمة إنْ أكملتْ قطاعات الاقتصاد الوطني أداءها مستقبلاً بالوتيرة نفسها التي سارتْ عليها طوال الأعوام العشرين الماضية. الحديث هنا على مستوى:
(1) تنويع القاعدة الإنتاجية، واستمرار الاعتماد على النفط كمورد رئيس للدخل.
(2) تحديات سوق الإسكان.
(3) تحديات الخدمات البلدية والقروية.
(4) النقل والمواصلات.
(5) استهلاك الطاقة بمختلف أنواعها.
(6) التحولات الديموغرافية للسكان.
(7) أسواق العمل ورأس المال والتجارة المحلية.
(8) مستوى دخل الأفراد والأسرة.. إلى آخر سلسلة التحديات والتطورات.
يكفي القول هنا؛ إنّنا إذا أردنا المحافظة على مستوى الدخل الاسمي المتحقق بنهاية 2013، البالغ 93.2 ألف ريال سنوياً، علينا رفع حجم الاقتصاد إلى أكثر من 4.5 تريليون ريال! وهذا يقتضي بافتراض ديمومة الأوضاع الراهنة لدعائم النمو الاقتصادي على وجهها الراهن، أنْ تزيد صادراتنا البترولية سنوياً إلى أكثر من 8.0 ــ 9.0 تريليون ريال! وألا يقل الإنفاق الحكومي السنوي عن 5.2 تريليون. هذه فقط مجرد تكهنات أولية، وجزءٍ يسير من كلٍّ أكبر بكثير لما ينتظرنا من تحدياتٍ تنموية بالغة التعقيد على مماسات العقدين الزمنيين المقبلين!
يجب أنْ ينصب الاهتمام الوطني فيما سيأتي مستقبلاً على أعلى المستويات، وأنْ يتم تسخير الموارد والكوادر الوطنية كافّة لأجل إنجاز هذا الأمر على أعلى درجات النجاح، أو على أقل تقدير درجات الاستعداد! لا أنْ تبقى خطوط المستقبل وما يحمله من تطوراتٍ متأخرةً عن دوائر اهتمامنا على المستويات كافة. كما يفترض لإنجاح تلك المساعي أن يتم إشراك شرائح المجتمع المختلفة في التفكير والعمل ضمن هذه العملية، لعل أولى تلك الشرائح اللازم إشراكها هي فئة الشباب، يتم منحها مزيداً من فرص المشاركة بما تستحق من اهتمام، وبما يوفّر لها القدرة على صنع القرار والمشاركة الفاعلة في تنفيذه ومتابعته ومراقبة منجزاته. أكون صادقاً؛ لا يمكن لمقالٍ بهذا الحجم أو حتى عشرات المقالات، أنْ تضعنا أمام الصورة الحقيقية لتحديات المستقبل، فليس هذا المقال أو غيره إلا مجرد نداءٍ وتذكير بما يستحق من الجميع اهتماماً يوازي حجم المستقبل القادم، ما يعني بالضرورة أيضاً تحوّله من مجرد اهتمام إلى عملٍ مؤسساتي رفيع المستوى، يضم في جنابته كل أهم مؤسساتنا الحكومية والأهلية، ورموز الشرائح الاجتماعية والفكرية في بلادنا، وأنْ يرى النور في أقرب وقتْ، وما ذلك إلا للمحافظة على كيان بلادنا ومقدراتها ومجتمعها. والله ولي التوفيق.