الطمع من شيم النفوس

الطمع من شيم النفوس فإن تجد ذا قناعة فلعله لا يطمع. وأعني بالطمع الحب الشديد للحصول على المزيد من متاع الدنيا. مع الاعتذار لشاعر الحكمة المتنبي.
كتبت في عدد الجريدة 31 مارس 2014، بعنوان "متى تنهار أسعار الأراضي؟". ذكرت عوامل حدوثها أحدها كفيل بإحداث نزول كبير في أسعار الأراضي. كان أول هذه العوامل انهيار أسعار البترول. ذلك لأن ارتفاع أسعاره ارتفاعا حادا منذ بضع سنوات هو أهم سبب مباشر في ارتفاع أسعار الأراضي في السنوات الأخيرة. لم يعجب هذا الكلام كثيرين.
يبدو أن هناك جهلا أو سوء فهم لمنهجية وعلمية تفسير الوقائع، اقتصادية كانت أو غير الاقتصادية.
منحى البحث الاقتصادي في تفسير وفهم واقعة من الوقائع الاقتصادية، يستند إلى دراسة بعمق للأسباب والعوامل الناشئة المتعلقة أو المرتبطة بالواقعة ذاتها، وليس على سلوك اقتصادي بشري كان وما زال، الذي يعبر عن طبيعة النفوس البشرية في كل زمان ومكان. بطبيعة الحال، لم يكن لتلك الأسباب المرتبطة بالواقعة أن تحدث لولا طبيعة النفوس البشرية. لكن لا يصلح تفسير واقعة بعينها بهذه الطبيعة، رغم القناعة التامة بأن هذه الطبيعة وراء تأثير الأسباب والعوامل الناشئة. بمعنى آخر، تفسير الأحداث بالاستناد إلى سلوك معبر عن طبيعة النفوس أو خصيصة من خصائص البشر في كل زمان ومكان (كالطمع وما يتفرع منه مثل الاحتكار)، هذا التفسير لا يفيد في فهم الواقعة ذاتها، وما الذي يميزها عن غيرها من الوقائع.
العكس هو المطلوب: فهم الأسباب المستجدة هو المدخل للمساعدة على التعرف على كيفية ضبط طبيعة النفوس الموجودة في كل زمان ومكان.
من أوضح ما أقصد التفسير الاقتصادي كما يبحث ويدرس في الأوساط البحثية والأكاديمية، التفسير الاقتصادي لموجة تضخمية أو غلاء بعينه.
يفسر الناس عامة الناس موجة الغلاء بالطمع والجشع وحب الذات، وما تتبعه من أدوات كالاحتكار أو نحو ذلك. المدارس الاقتصادية لا تفسر الغلاء بهذه الطريقة، لأنها ستكون مثل من يفسر الماء بعد الجهد بالماء. لأن حب النفس والممارسات القائمة على الطمع كالاحتكار موجودة باستمرار. وتبعا لذلك، لا تبين لنا تلك الممارسات لماذا حصلت موجة تضخمية بعينها، في هذا الوقت، وليس من قبل، إلا في حالة اكتشاف طريقة طمع أو احتكار جديدة لم تكن معروفة من قبل.
محاولة التفسير بالطمع فيها تبسيط مخل لفهم الأحداث. هي تغفل أو تتغافل عن البحث في فهم ما استجد من تطورات وأحداث. ومن جهة أخرى، تحكم بأن القناعة من شيم السابقين. هذا طبعا غير صحيح، لأن حب المال حبا جما من شيم النفوس جيلا بعد جيل. من جهة أخرى، وجود طمع وجشع لا يعني بالضرورة حدوث تضخم. وفي هذا الحالة الأخيرة تكون المسألة انتقال موارد من طرف إلى طرف دون التأثير في المستوى العام للأسعار.
في فهم حب المال حبا جما ظهرت كتابات كثيرة تحاول تفسير الأحداث، تفسير واقع الرأسمالية. وتبدو أهمية هذه الكتابات حين بينت الإحصاءات والبيانات أن أوضاع الفروقات في الدخل والثراء الآخذة في الاتساع في السنوات الأخيرة. الجدول التالي يوضح ما أقصد.
مصدر الجدول مقالة بعنوان Why We’re in a New Gilded Age لعالم الاقتصاد الشهير بول كروقمان. الجدول يقول إن نسبة 1 في المائة من السكان تحصل حاليا على 7 في المائة من الدخل في الدول الاسكندنافية، وعلى 10 في المائة في أوروبا، وعلى 20 في المائة في أمريكا. أما توزيع الثروة فأسوأ.
نشرت صحيفة "الإندبندنت" البريطانية في كانون الثاني (يناير) الماضي تقريرا عن تراكم الثروة في العالم في أيدي عدد أقل من الأثرياء، بينما تتسع قاعدة الفقر. ونقلت الصحيفة تحذير منظمة أوكسفام الخيرية من تأثير سلبي لتوسع الهوة بين الفقراء والأغنياء في العالم.
وقالت "الإندبندنت" في تقريرها إن 85 ثريا في العالم اليوم يكتنزون ثروات تعادل ثروة نصف سكان العالم مجتمعين. وجاء في تقرير منظمة أوكسفام الذي استندت إليه الصحيفة أن هذه المجموعة من أثرى أثرياء العالم تملك ما يملكه 3.5 مليار إنسان على وجه الأرض. وحذرت من أن اكتناز هذه المجموعة من الأغنياء لثروة ضخمة تعادل ثروة بقية سكان الأرض مجتمعين قد تتسبب في اندلاع أحداث واضطرابات اجتماعية.
وتضيف الصحيفة في تقريرها أن 70 في المائة من الناس يعيشون في بلدان تتسع فيها الهوة بين الأغنياء والفقراء في الثلاثين عاما الأخيرة.
تفسير هذه الهوة بالطمع والجشع أو بالاحتكار لا يكفي، حيث لا يوضح كيف تطورت الأمور هكذا. وأحدث توضيح، جاء في كتاب رائع وضعه الاقتصادي الفرنسي توماس بكتي عنوانه "الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين". الكتاب في قرابة 700 صفحة، ولعلي أكتب أكثر عن هذا الكتاب في القريب.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي