الدبلوماسية الشعبية .. من الداخل للخارج

في "تويتر"، علق الدكتور عبد الرحمن الخريجي ــــ أستاذ الإعلام والعلاقات العامة ــــ على مقالتي "زمن الرأي العام ودبلوماسية الشعوب" قائلاً ما نصه: "ألم تسمع يا صديقي بالقول الأمريكي المأثور Charity begins at home، البداية تكون في عقر دارك لتصنع من أبناء وطنك سفراء للخارج".
وهو تماماً ما تنبه له دهاة السياسة الأمريكية كجيمس بيكر وهيلاري كلينتون، اللذين استشعرا أهمية الالتفات للرأي العام الداخلي في مسائل السياسة الخارجية، حيث لاحظا أن توقعات عامة الشعب الأمريكي واتجاهاتهم نحو القضايا محل التفاعل على المسرح الدولي لا تبنى فقط من خلال ما يتلقونه من رسائل صادرة عن صانعي القرار في السياسة الخارجية الأمريكية، بل إن تأثرهم يمتد ليشمل ما يصدر عن ممثلي السياسات الخارجية للدول الأجنبية الأخرى، فالشعب في الداخل الأمريكي واقع تحت تأثير دورة الأخبار على مدار 24 ساعة، تماماً كبقية شعوب العالم، ونحن في السعودية لسنا بمعزل عن هذا، وبالتالي فإن هذه التأثيرات تحتم على الممارسين للعمل الدبلوماسي وممثلي السياسات الخارجية للدول، أن يمتلكوا مهارة إضافية أخرى بخلاف المهارات الدبلوماسية التقليدية التي كانوا يستخدمونها في السابق، وأن يهتموا بالجمهور الداخلي وبوجهات نظره تماماً كاهتمامهم بالجمهور الخارجي وصناع السياسة الخارجية لدى الدول الأجنبية.
وحيث يرى "فيليب سيب" مدير معهد الدبلوماسية الشعبية في جامعة جنوب كاليفورنيا أن: "وسائل الاتصال الحديثة ــــ بدءاً من القنوات التلفزيونية الفضائية، وصولاً إلى "تويتر" ــــ جعلت العالم برمته "يتطفل" على عقول الناس وحياتهم الخاصة، ويؤثر في رؤاهم بطريقة أو بأخرى"، فإن هنري كسينجر يرى في لقاء له في مجلةForeign Policy عام 2011 أن "التقنية الحديثة أفادت صانع القرار بأن جعلت عملية التعرف على ما يقوله الناس في مسائل السياسة أمراً في غاية السهولة، إلا أنها تظل معرفة "سطحية"، تجعل من الصعب الوصول لجوهر المشكلة".
وفي خضم السيل الجارف من المعلومات التي أضحى صانع القرار السياسي يتلقاها من وسائل الاتصال الحديثة، فإن البراعة تكمن في استخلاص ما هو ذو أهمية من هذا الكم المهول من المعلومات والتي تحوي كثيراً من الغث وقليلاً من السمين، ومن ثم ربطها في السياق التاريخي للأحداث، والنظر إليها برؤية معمقة للوصول لمعلومات قيمة، تسهم في تكوين تصور يساعد على فهم اتجاهات الرأي العام، وتوظيفه لخدمة المصالح الوطنية.
ولذلك كانت الرسائل الدبلوماسية الصادرة عن وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل ــــ يحفظه الله ــــ أنموذجاً يحتذى، كونها تسعى جاهدة إلى أن تعكس، باهتمام بالغ، وبحساسية واستشعار شديدين، الأحداث والمواقف السياسية، للداخل كما للخارج.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن وسائل الإعلام الوطنية، من قنوات تلفزيونية، وصحف، ومواقع إلكترونية، تقوم هي الأخرى ــــ أو هكذا ينبغي ــــ بدور مهم وحيوي في "التنشئة السياسية" عبر تفسير الأحداث والمواقف، مساعدةً في تكوين تصور عام برؤية تراعي مصالح الوطن والمواطن، وتسهم في فهم المواطن للتحركات على الساحة الدولية، وهو ما يصب في عملية تكوينه لاتجاهاته نحو مختلف القضايا الدولية. وبذلك يكون لدى المواطن "الراغب في التفاعل الإيجابي عبر الإنترنت" الحصيلة المعرفية المقبولة التي تساعده في ممارسته للدبلوماسية الشعبية، واتصاله بأفراد من الشعوب الشقيقة والصديقة في مختلف أنحاء العالم عبر تطبيقات الإعلام الجديد، لإشباع شعوره بالقدرة على والرغبة في التفاعل والمشاركة الإيجابية، المستندة على ركيزة وفهم، لتحقيق مصالحه الصغيرة، قبل الكبيرة، والمتمثلة في الأمن، والتنمية، والرفاه، والتي تصب بالضرورة ــــ كما أسلفت في مقالة سابقة ــــ في مصلحة دينه ووطنه.
هذا في شق السياسة، وهو شق مهم وضروري في ممارسة الدبلوماسية الشعبية، لكن الشق الأكثر أهمية ــــ من وجهة نظري ــــ هو الجانب الثقافي، والفكري، والديني، والاجتماعي، والتراثي، بدءاً من مسائل العقيدة، والإيمان، وسماحة الإسلام، مروراً بالثقافة العليا كالأدب والفن، والتعليم، التي تعجب النخبة، وانتهاء بالثقافات الشعبية البسيطة، التي تركز على إمتاع الجماهير بالجملة، كالفولكلور الغنائي، والرقص، والملابس التراثية، والأكلات الشعبية وخلافه. وهذا الشق يمثل في مجمله ثقافة المجتمع السعودي، والتي ينبغي على المواطن الراغب في الاتصال بفرد من أفراد المجتمعات الأخرى أن يحرص على أن يبرز ثقافة مجتمعه في الأماكن التي تكون فيها جاذبة للآخرين.
ونحن حين نذكر ذلك، نستحضر أنموذج مهرجان الجنادرية للتراث والثقافة والذي اشتمل بامتياز على غالبية هذه الفئات الثقافية المصنفة ضمن ممارسات الدبلوماسية الشعبية، وهو ما يعني أهمية هذا المهرجان التراثي الثقافي الفريد من نوعه، وضرورة استمراريته، وتطويره، وتفعيل برامج تبادل علمي وسياحي يتم من خلالها استقطاب نخب، وطلاب، ومنظمات دولية حكومية وغير حكومية، وأفراد، للاستمتاع بأجواء المهرجان، والتعرف من كثب على الثقافة السعودية العربية الإسلامية الأصيلة وتاريخها وتراثها العريق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي