المنهج التعليمي .. إنه هناك
ما أكثر من أدلوا بدلوهم في نقد التعليم في بلادنا، المختص وغير المختص. فقد سالت تحت جسره مياه كثيرة وبقي حال التعليم حقل تجارب ما إن تطبق عليه تجربة في جزئية منه حتى يأتي بديل لها.
وحتما فكل ما قيل لا يمكن أن يكون سوى تعبير عن حجم الإحساس بالمشكلة باعتبار أن التعليم هو رافعة التنمية وعدتها وعتادها شكلا ومضمونا.
وقد تمحور قدر كبير من النقد حول المنهج التعليمي وما يعنيه من مقررات ينبغي لها أن تكون حاضرة في قلب سياسة التعليم بمنظورها الشامل، التي يفترض أن تتجه أهدافها إلى صناعة الإنسان، مسلحا بذهنية خلاقة وبمعرفة عملية علمية تنتمي للمستقبل وبمهارات تتكفل بصناعة هذا المستقبل بتقدم مطرد.
وما دام المقرر في المنهج هو لب المسألة، فلست مع أولئك المستمرئين عاما فعاما تطوير المقرر من خلال إنتاجه محليا بمقاييس نجتهد فيها ومضامين نراها أصوب لنا، فهذا المنحى في "الإنتاج المحلي" للمقررات ــــ بفتح النظر على التجارة فيه ــــ سيظل بصورة أو بأخرى أسيرا لأعراض ما سبق إنتاجه، فالذهنيات التي ستعمل على "تطويره!" ستظل رهينة لاجترار الأسلوب ذاته ومسكونة بالمكونات والعناصر التقليدية ذاتها، مهما تحفزت للتجديد، فهيمنة الثقافة السائدة بذهنية الاحتراس وتحوطاتها وبالأضرار على مناقبية مجتمعنا وخصوصيته ستتدخل بالضرورة فتجعل عملية التطوير مشوبة بالتشوش وبعلل جوهرية تفقد المقرر قيمته وجسارته وصراحته وتقعده عن دوره المأمول.
أي أن تطوير المقررات، ليس له إلا اتجاه واحد، وهو ألا نعيد اختراع العجلة، بمعنى أن نعمد إلى اختيار واحد من نماذج المقررات التعليمية في الدول المتقدمة ممن أصبحت بسببه في صدارة العالم ونترجمه وننقله تماما كما هو دون تطفل عليه بالحذف أو الإضافة. فهناك نماذج جاهزة باهرة سواء في الغرب أو في الشرق برهنت على أنها كانت خميرة معجزة التقدم علما ومهارة وأداء، ولا يمكن المغالطة في أن المقرر الأمريكي أو الأوروبي أو الاسكندينافي أو الياباني أو الكوري الجنوبي لم يكن هو رافعة هذا الإنجاز الحضاري العظيم في تلك المجتمعات.
نحن نضيع وقتا وجهدا ومالا في الإنتاج المحلي لمقررنا التعليمي ونضيع معه ــــ على نحو أشد أسفا ــــ قوى بشرية طالعة بإمكانها أن تحقق المعجزات فيما لو لم نصر على محاصرتها بوصاية ما ننتجه لها من محتوى تعليمي ندفعها لتتجرعه بانسداد شهية، فلا هي تترك فيها تأهيلا نوعيا في علم أو مهارة ولا هي تؤثر فيها فتحفزها لكفاءة إيجابية.
لن أتحدث عن إعداد المعلم وبيئة التعليم المكملين الأساسيين مع المقررات للارتقاء بمنهجنا التعلمي لأني أراهما شأنين بديهيين مما يصح فيهما لزوم ما يلزم. بمعنى أن منهجا نموذجيا يتم اختيار مقرراته من تلك البلدان المتقدمة يستدعي بالضرورة أن توفر له كل تلك الضمانات العلمية والتربوية المطبقة هناك لكي يصبح المعلم وبيئة التعليم متسقين تماما معه. وحتما فإن مقررا يتسم بالحداثة والدقة وصراحة الوضوح في محتواه وأهدافه لا يسهم فقط في تفاعل المعلم وارتقاء بيئة التعليم معه فحسب وإنما في إحداث تحول عميق في العقل الاجتماعي والدفع به للمنافسة على الكفاءة والإنتاجية.
في التأليف النظري لمواد الدين والعربية سيبقى علينا، أن نستخدم المسطرة ذاتها، واضعين في اعتبارنا أن مهمة التعليم العام لا تتمثل في حقن الطالب وأثقال ذهنه بالكم، كما لو كان سيتخرج عالم دين أو لغة، فتلك مهمة يتكفل بها التخصص في التعليم العالي لا غير.
فهل من غضاضة أو ضير في أن نمضي في هذا الطريق بعيدا عن القص واللصق ومغانم الاتجار في إعادة الإنتاج؟ وأن نستهلك ما لا بد من استهلالكه فذلكم هو الاستهلاك الإيجابي المشرف الذي سيخلق الموارد البشرية التي تجعل الاستدامة التنموية حقيقة حية لا عبارة إنشائية هائمة على وجهها في صفحات خطط التنمية!