دروس من طائرة الخطوط الماليزية المفقودة

أصيبت ماليزيا في الأشهر الثلاثة الماضية بثلاث كوارث تاريخية، كل مصيبة أدهى من الأخرى. أولاها حصول فيضانات كارثية في ولايات ماليزية عدة وبالذات في ولاية جوهور في جنوب ماليزيا، التي تعرضت لأسوأ فيضانات تشهدها البلاد خلال قرن كامل تسببت في مقتل نحو 20 شخصا وتشريد أكثر من 100 ألف آخرين، ودمرت كثيراً من المنازل والبنى التحتية. وثانية الكوارث تعرُّض كامل البلاد لجفاف حاد وتوقف الأمطار وارتفاع درجة الحرارة، ما أدى إلى نقص حاد في موارد المياه حتى إن بعض المناطق وصلت نسب نقص منسوب المياه الجوفية فيها إلى أكثر من 40 في المائة، فتحولت ماليزيا الخضراء إلى اللون الأصفر، بل إلى السواد في الغابات التي انتشرت فيها الحرائق حتى إنه في بعض الأيام وصل عدد الحرائق إلى 100 حريق أدت إلى انتشار الدخان والضباب وبالذات في العاصمة كوالالمبور واضطروا في بعض الأحيان إلى إيقاف المدارس، وأحياناً تشم رائحة الحرائق وأنت في الطائرة عند الإقلاع والهبوط.
ثم ظهرت ثالثة الأثافي التي هزت ماليزيا حكومةً وشعباً وشغلت العالم كله ألا وهي فقدان طائرة الخطوط الماليزية MH370 في رحلتها التاريخية من كوالالمبور إلى بكين عاصمة الصين وعلى متنها 239 راكبا من ضمنهم أفراد طاقمها في حادثة جعلت الماليزيين والعالم في ذهول لم يوجد لها حتى الآن في عالم الطيران مثيل ولم يعرف لها إلى الآن تفسير سوى تحليلات في غالبها متضاربة ومعلومات مغلوطة في بعضها الآخر، والله أعلم ماذا يخبئ القدر لها.
وبما أنني كنت موجودا في ماليزيا منذ بداية الحدث ومتابعاً له ومتأثراً بالوضع العام لمن حولي بما كنت أراه وأرصده من أحوال أساتذتي وأصدقائي وجيراني الماليزيين وغيرهم، الذي يجبرك على التأمل في هذه الحادثة والتقاط الدروس المتناثرة منها، التي لم ولن تمر مرور الكرام لا على ضحايا ركاب الطائرة أنفسهم - إن كانوا أحياء- ولا على أهاليهم الثكالى ولا على شعب ماليزيا الودود المتواضع العاشق للنظام ولا على الخبراء والمختصين والمهتمين بعالم الطيران والكوارث. فأحببت أن أشارك القارئ الكريم بعضاً منها مما قد اصطدته من بحيرات الحدث ومحيطاته، أبرزها ما يلي:
1. على الرغم من التقدم التكنولوجي الهائل في العصر الحديث، وبالذات أنظمة الاتصالات وتكنولوجيا الأقمار الصناعية، وعلى الرغم من الأسطول الدولي الضخم لأكثر من 25 دولة من السفن التي تجاوزت 40 سفينة والطائرات بمختلف أنواعها، التي تجاوزت أكثر من 35 طائرة من أجل البحث عن البوينج 777 التي يتجاوز طولها 60 متراً وعرضها ستة أمتار تقريباً، والمسافة بين أجنحتها تتجاوز 60 مترا، إلا أنه مع ذلك كله لا يزال العالم عاجزاً - وإلى لحظة كتابة المقال بعد أكثر من عشرة أيام من حصول الحادثة- عن أن يحدد مكان الطائرة وماذا حدث لها ولركابها وتحديد مسارها أو الوصول لبقاياها إن كانت قد تحطمت، فضلاً عن التعرف على سبب اختفائها. وهنا يعرف ضعف الإنسان ومحدودية قدراته، فمهما بلغ من القوة والمهارة والتطور فهو ضعيف يزداد ضعفه حالة مظنة القوة، ويزداد عجزه حالة مظنة القدرة.. وفي المقابل تبرز القدرة الإلهية العظيمة لخالق الكون ومصرف الأمور، الذي اختص بكمال العلم فهو لا تخفى عليه خافية يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون، المدبر للأمور صغيرها وكبيرها ظاهرها وخفيها.. فما أعظمك يا رب .. وما أضعفك أيها الإنسان!
2. يبهرك التفاعل الكبير مع القضية من أوجه عدة: فمنها التفاعل العالمي مع الحدث والمتابعة الدقيقة له وكأن العالم كله في محيط الحادثة المكاني. ومن ذلك التفاعل الحكومي من قبل الحكومة الماليزية التي خالفت عادة الماليزيين من حيث البطء والهدوء فقد سارعت الحكومة من أعلى الهرم ومن خلال تفاعل كل المسؤولين بالمشاركة الدورية في المؤتمرات الصحافية والزيارات الميدانية والجولات الاستكشافية والمشاركات الإعلامية فأصبحت الحكومة وكأنها خلية نحل على الرغم من كل ما قيل بشأن التقليل من دورها وتجاوبها. أيضاً من وجوه التفاعل الأخرى التفاعل الشعبي الكبير في حجمه ومشاعره، فالشعب الماليزي على الرغم من اختلاف أعراقه إلا أنه ظهر ترابطه بصورة عجيبة، فمساجد المسلمين ودور العبادة للديانات الأخرى والجامعات والمدارس والمنظمات والأفراد والجماعات والكبار والصغار، الكل يتفاعل.. الكل حزين ويدعو ويتأمل ويرجو أن تعود الطائرة سالمة بأهلها. وهذه اللحمة وهذا النسيج غير المتوقع والتفاعل غير المحدود سر من أسرار الحضارة الماليزية الحديثة.
3. من أبرز الناجحين في هذه الحادثة والبارزين في أحداثها القوة الإعلامية الضخمة التي تنقل الأحداث بصور مبهرة في الوصف والتحليل والمؤثرات المرافقة للحدث وسرعة النقل والبث المباشر من قلب الحدث، ما أصبح مؤثراً في التفاعل والتعاطي مع الأحداث، بل أحيانا كثيرة يسهم بصورة دقيقة في قلب الحقائق والمفاهيم وتوجيهها إلى ما يراد منها. ومع ضخامة الحادثة إلا أن العجب والحيرة تنتابك من ضعف متابعة الإعلام العربي للحادثة نوعاً وكماً.
4. إدارة الأزمات والكوارث علم مهم لتوقع حدوث المجهول وغير المرغوب، ويهدف إلى فعل الممكن عند حصول الأمر المحزن في أقل الأوقات والخسائر من الأرواح والممتلكات. فدوره مفيد وفاعل للتخفيف من ألم المصاب ومقدار المصيبة. وينجح بقدر ما يخطط له جيداً في تحديد نوع الكارثة وتخيل تبعاتها والاستعداد لإزالة أسبابها وإنقاذ ضحاياها والحفاظ على من هو في محيطها. ولقد نجح الغرب في التنظير والتطوير والتحرير لمفرداته وإجراءاته وأدواته والاستفادة من أحداث سابقة مشابهة وتخيلات وتوقعات لاحقة. وحادثة الطائرة أظهرت مدى الحاجة إلى هذا العلم على الأقل في توفير المعلومات والتعليمات اللازمة لمن في الحدث أو خارجه. ومن الأدوار المهمة لإدارة الكوارث من غير الدور الحكومي هو الدور الشعبي الذي يمكن تطويره بتكوين مجموعات وجمعيات مجتمعية متخصصة من خلال استراتيجيات واضحة وموثقة ومن قبل ذلك زرع الثقافة المجتمعية في هذا الباب.
5. على الرغم من أنه السابق لأوانه أن يجزم أحد بطبيعة الحادثة وسببها وما يترتب عليها سواء تحطمت بسبب ما - وهذا الأقرب للتحليلات العلمية من قبل الخبراء - أو الاختطاف والعمل الإرهابي - وهو الأضعف- أو حصول الأمرين كليهما، لكن العجيب من البعض أنه لا يزال يؤمن بالخزعبلات والتوهمات والتخرصات التي لا تستند إلى علم ولا سنة كونية حتى مع الأسف من بعض أهل الإسلام عندما يستعينون بالسحرة والمشعوذين كما فعل بعض المسؤولين في ماليزيا. نحن جميعاً مع إيماننا العميق بقدرة الله - عز وجل - وتدبيره إلا أن الله ربط الكون بنواميس وسنن لا يمكن أن تخرق إلا بسبب قدري مؤكد لا يخالف هذه السنن وليس ذلك لأي أحد ولا لأي حالة، وهنا يظهر دور العلم الحديث والبحث العلمي والتحليل العميق للمشكلات وبذل كل إمكانات العقل البشري للوصول إلى الحقائق والعلوم والقدرات والأسرار الخفية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي