أنموذج اقتصادي لحماية الأموال من استغلالها باسم الدين
إن نظام عمل المصارف الإسلامية الحالي لا يختلف كثيرا عن تعاملات المصارف التقليدية لأن ما تم عمله لا يخرج عن كونه تكييفا وتبريرا للمعاملات الربوبية حتى تناسب الفكر الإسلامي، فأصل معاملاتهم ربوية والذي يجري هو فقط إيجاد التبرير وإقامة الدليل على جوازه. عند تعاملاتنا مع المصارف الإسلامية نرى الربا واستغلال أموال الناس معروضا بطريقة إسلامية، وقد نقبل مثل هذا الأمر أيام الضعف والمسكنة إبان كنا تحت ظلال الأنظمة الوضعية، أما الآن وقد أتيحت لنا الفرصة لتقديم ما لدينا، فهذا مرفوض وقد حان الوقت لإعادة المصارف الإسلامية إلى أصولها الحقيقية وتهذيبها مما علق بها من آثار التبعية التي شوهت معالمها. ويمكن تحقيق ذلك عن طريق صياغة نظام إسلامي نقي يحتضن هذه المؤسسات المالية الإسلامية ويعيد هيكلتها بما يتمشى مع العقيدة الإسلامية حتى يستفيد العالم من مبادئنا ونحفظ أموالنا من استغلالها باسم الدين.
وحتى نصل إلى ذلك علينا قبل كل شيء أن نقيم مبدأ الحوار بيننا فمقولة "إما أن تكون معي أو ضدي" ولت مع صاحبها، فإذا لم نصلح شأننا ونقبل بعضنا فكيف نروج لأفكارنا؟. كما يجب ألا نشكك بمن يقدم لنا فكرا نيرا مدعما بالحقائق الثابتة والبراهين الدامغة، وألا نتهم بعضنا إذا عجزنا عن قرع الحجة بالحجة فالدين كله لله ولم يعط أحدا حق الوصاية على عقول الناس.
إن قبولنا بمبدأ الحوار سيمكننا من تمحيص الأفكار، وغربلتها، ثم الاتفاق على الأصلح منها عندها نستطيع تقديمها للعالم بلغة بسيطة خالية من العنجهية. وقد ذكرت في مقالات سابقة كيف تستقبل النماذج والأفكار عندما تعرض بلغة عفوية لخدمة الإنسانية وترفض عندما تعرض بطريقة استعمارية تحمل الطابع الديني أو القومي.
ثانيا علينا أن نستغل حاجة الغرب حاليا لأموالنا، وهنا أراني مضطرا أن أخالف بكل أدب أساتذة أفضل من يرفضون مساعدة دول العشرين عندما اجتمعت في لندن، وطلبت من الدول النامية ومنها السعودية، المشاركة في مد يد العون لإنقاذ الاقتصاد العالمي من عثرته. لقد بين عدد من الكتاب الفضلاء والأساتذة النبلاء رفضهم دعم الاقتصاد العالمي وإخراجه من أزمته وأن أموالنا يجب أن تدخر لأبنائنا، وهذا كلام صحيح وعين العقل والحكمة إذا كانت القوة بيدنا وكان الأمر محض اختيارنا ولكننا نتعامل مع دول عظمى وإمبروطوريات كبرى. ومعنى أن نرفض مساعدتهم الدخول في صراع لا طاقة لنا به وستمكنهم قوتهم وسطوتهم من أخذ ما يريدون فلديهم عددهم وعدتهم وطرائقهم. وأفضل طريقة، في رأيي المتواضع، مقايضتهم بأن نقدم بعض ما يريدون ونشترط ونساوم لضمان حقوقنا وترسيخ مبادئنا، كما كان يفعل ذلك من قبل صندوق النقد الدولي عندما يهم بإقراض بعض الدول فإنه يستغل عجزها وحاجتها إلى المال فيكبلها بشروط لا قبل لها به ويتدخل في كثير من سياساتها الاقتصادية والنقدية، بل يتعدى ذلك إلى السياسات الأمنية والدفاعية وأبرز هذه الممارسات كانت مع المكسيك، والبرازيل، والأرجنتين. فإذا عاد العالم وطلب المساعدة لحل الأزمة، وأظنهم سيفعلون، فلنمد يدنا شريطة تعديل نظام الاقتصاد العالمي بما يناسب أنموذجنا الجديد الذي يحمل الطابع الإسلامي ضمنيا، وسيدعمنا في ذلك شعوبهم التي تطالب بإلغاء الفائدة، وكُتابهم الذين يقرون بأن سعر الفائدة هو التي سارت بهذا النظام إلى الهاوية.
ولست أخشى قبول نظامنا الجديد من دول العالم إذا قدم بطريقة منطقية خالية من العنصرية والسيادية، بل أخشى التشكيك والطعن فيه من بعض أبناء المسلمين وهم على فئتين: الفئة الأولي هي التي تتغنى بتجربة البنوك الإسلامية بوضعها الحالي وهم يعلمون أو لا يعلمون أنها نشأت في عهد الضعف والمسكنة، وهي لا تخرج كما أسلفت عن تكييف الأنظمة الوضعية لتلاءم المبادئ السماوية وهذه مرحلة يجب أن تنتهي وإن أصررنا على شرعيتها في الوقت الذي يمكننا تنقيتها فإننا نخشى أن ينطبق علينا قول الله تبارك وتعالى "الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا". فئة أخرى افتتنت بالرأسمالية وتظن ألا بقاء للعالم من دونها وهم أحزن على انهياريها من أتباعها، فتراهم ينفخون في جسدها لتظل قائمة صامدة كما فعل أشياعهم من قبل مع الاشتراكية الذين ما زالوا يعيشون على أطلالها ويشيدون اقتصادياتهم على أنقاضها، وهذا مؤشر يدل على أننا غير قادرين على قيادة العالم لأننا أعتدنا التبعية وفقدنا القدوة والمرجعية.
وختاماً أريد بهذا المقال أن أطرق عقول علمائنا الجهابذة في علوم الشريعة والاقتصاد ليقدموا لنا أنموذجا نقياً حراً للاقتصاد الإسلامي قابلا للتطبيق يحتضن المصارف الإسلامية التابعة للرأسمالية، وهم قادرون بإذن الله، ويمكن بعدها تقديمه وتسويقه بأساليب نتكلم عنها في حينها. وإن أحجموا فهذا يصلح لأن يكون رسالة دكتوراه ومساهمة معرفية للمتخصصين في مجال الاقتصاد وليعتبر صاحبها عمله هذا كالصدقة الجارية، ولو كنت قريبا من هذا المجال لما ترددت في ولوجه.