شركة الغد .. ثورة التكنولوجيا

كان ذلك عام 2030 في مدينة بانجلور الهندية والحياة تسير بوتيرتها المعتادة في شوارع المدينة التي رغم صغرها لا تعرف حركة البيع والشراء فيها الهدوء، يومها كانت ثورة الإنترنت في أوجها، كان الناس حول العالم يستعملون أجهزة الكمبيوتر وهواتفهم النقالة للتسوق أو إجراء بعض التحويلات البنكية وعقد الصفقات العابرة للحدود، ورغم أن بياناتهم كانت تتعرض نتيجة ذلك للسرقة, إلا أن الأسواق والأعمال كانت تسير رغم ذلك. لينقطع التيار الكهربائي الرئيس عن المدينة فجأة، ويصيب الشلل التام كل مفاصل المدينة وأسواقها وشوارعها.
وكأنما أصابت لعنة بانجلور كل المدن العالمية بالعدوى، إذ لم يلبث أن انقطع التيار عن نيويورك بعدها بأربع سنوات في عام 2034، فجن جنون المضاربين في بورصة نيويورك الذين يعتمدون اعتمادا كليا على التكنولوجيا في تداولاتهم ومضارباتهم اليومية. ولم تنج منطقتنا التي منذ أكثر من نصف قرن أخذت مدنها تتحول إلى غابات من الأسمنت، وتستهلك من الطاقة ما يفوق حاجتها الفعلية إهدارا للموارد بلا حساب وبلا رقابة ذاتية، فغرقت دبي التي تفوقت على الجميع في اعتمادها على التكنولوجيا في ظلام تام وتعطلت الحركة التجارية فيها وهي المدينة التي نشأت وترعرت في حضن التبادل التجاري منذ القدم، إلا أنها منذ ما يقارب نصف القرن صارت شأنها شأن المدن الحديثة آنذاك، تعتمد شيئا فشيئا على التكنولوجيا التي غزت العالم آنذاك في تسيير كل شؤونها، لذا فإن تعطلها أصاب المدينة بالشلل الاقتصادي العام.
لم يمر المفكرون والاقتصاديون وطبقات الأعمال بهذه الحوادث مرور الكرام، إذ انطلقت الأسئلة من كل الاتجاهات قراءة وتحليلا حول العديد من المفاهيم التي كانت بمثابة حقائق ومسلمات لا يتطرق الشك إليها، أسئلة مثل إلى أي حد ينبغي الاعتماد على التكنولوجيا؟ وأين مكان الإنسان في سلم أولويات التنمية؟ بل راح البعض يسأل عن موقع المجتمعات المحلية في عملية التنمية؟ بينما راح البعض يتذكر ما كان يطلقه العلماء حول مخاطر التوسع الصناعي ومخلفاته، وحول سلوك الدول والمجتمعات في التعامل غير المسؤول مع البيئة.
وأكثر النتائج التي توصلوا إليها إثارة كانت: إن التكنولوجيا التي أحدثت ثورة لا يمكن إغفالها منذ بداية خمسينيات القرن الماضي وفتحت آفاقا جديدة، لم يكن الناس ليتخيلوها في يوم من الأيام هي نفسها التي ستكلف العديد منهم وظائفهم، وتقضي على الكثير منهم مع كل مرحلة من مراحل تطورها. ولقد ثبت بالتجربة أن الغزو التكنولوجي لكل مدينة وقرية وبيت، والتغييرات التي أحدثها في طرق التجارة وكيفية ممارسة الأعمال، الذي أثر بشكل تام في أساليب حياتنا، لهو خير مثال ودليل على أن الريادة في شتى المجالات هي لمن يمتلك القدرة الكبرى على التكيف والاستيعاب الصحيح للتغيير. فالعالم الجديد المتعدد الأقطاب الذي يُشكّل حاليا، سيقوده أولئك الذين استطاعوا استيعاب المتغيرات بسرعة وأبدوا مرونة كبرى من نظرائهم في إحداث التغييرات المناسبة التي قد تكون جذرية في الكثير من الأحيان.
ما حدث بعد ذلك في الأعوام التي تلت ذلك كان أشبه ما يكون بوقفة لتصحيح مسار التنمية في اتجاه الاستدامة، فقد اتجهت الدول والمجتمعات وتحت الشعور بالمسؤولية تجاه الأجيال المستقبلية مستذكرين قول أحدهم قديما "نحن لا نرث العالم من أجدادنا .. نحن نستعيره من أطفالنا"، إلى ربط التكنولوجيا بتلبية احتياجات المجتمعات المحلية وتوظيفها لتطوير الصناعات والموارد المحلية، وتوافقت الدول على إعادة النظر في الكثير من بنود اتفاقيات التجارة ومنظمات التداول الحر باعتباره كان الطريق الذي أزال كل الحدود والحواجز، وأدى في نتائجه إلى اجتياح الأسواق الناشئة فيما سبق. فازدهرت الصناعات المحلية بعدها وكان ذلك فيما أذكر بدءا من عام 2050.
لقد أعطتنا تلك التجارب القاسية درسا سيظل محفورا في ذاكرتنا التنموية، فيما يتصور مارك جويدر في الفصل الثاني من كتابه "شركة الغد" وهو: الإنسان أولا .. الإنسان وليس التكنولوجيا هو الأهم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي