ديون العالم تُحسب بجودتها

لم يكن غريباً ارتفاع الديون العالمية في العام الماضي، تماماً مثلما جاء تراجع حجم الإقراض والإقبال عليه من قبل المقرِضين منطقياً في الأشهر الماضية. فلا تزال الآثار التي خلفتها الأزمة الاقتصادية العالمية موجودة، وستبقى حاضرة، إلى وقت لن يكون قصيراً، خصوصاً في ظل تقدم مرة وتراخٍ مرة في عمليات الإصلاحات المصرفية التي أطلقت في أعقاب تلك الأزمة. والتقدم والتراخي، يبدو أيضاً منطقياً؛ لأن الخريطة المالية العالمية تتشكل، وبالتالي فهناك الكثير من العقبات لا بد أن تزاح من طريق هذا التشكل التاريخي. فالمعايير التي صيغت وتلك التي تصاغ حالياً، تفرض منهجاً مصرفياً جديداً تماماً، لا يشبه ما كان عليه في السابق. وبالتالي كان وارداً أن ترتفع الديون العالمية، ليس بسبب الإقراض التقليدي المعروف، بل من جراء اندفاع الحكومات حول العالم على إصدار السندات.
ديون العالم بلغت 100 تريليون دولار أمريكي حتى منتصف العام الماضي، وذلك حسب بنك التسويات الدولية. وقد ارتفع 30 تريليون دولار في غضون ست سنوات. وخلال هذه السنوات الست، أصدرت الحكومات "كميات" هائلة من السندات، في محاولات لسند اقتصاداتها التي دخلت دوامة الأزمة آنذاك. والحق أن اقتصاداً واحداً لم ينجُ من هذه الدوامة، مع اختلاف الإصابات من مدمرة إلى خطيرة إلى متوسطة إلى طفيفة. وهذه الأخيرة طفيفة بعددها. وتحاول الحكومات من خلال السندات التي تصدرها، إنعاش اقتصاداتها. بعضها حقق خطوات متقدمة في هذا المجال، خصوصاً تلك التي تتمتع بمستوى ائتماني جيد وما فوق، وبعضها الآخر لم يصل إلى المستوى المرجو من هذه السندات. فلا تلبث أن تتحول إلى عبء إضافي آخر، يتطلب تدخل جهات خارجية قادرة.
وفي الأشهر السابقة، شهدت سوق الصكوك الإسلامية ارتفاعاً لافتاً، ورغم أنها "من حيث القيمة" لا تمثل شيئاً يذكر على الصعيد العالمي، لكنها باتت تحظى باهتمام متزايد من دول وجهات لم تكن في حسبانها. وفي المجمل، فإن ارتفاع ديون العالم إلى 100 تريليون دولار، يشكل نقطة جديدة بالفعل للاقتصاد العالمي، خصوصاً أن المؤشرات تدلها كلها على أن سوق السندات العالمية ستمضي في ارتفاعها في السنوات المتبقية من العقد الحالي، وربما ستذهب إلى أبعد من هذا الوقت. دون أن ننسى أن جميع دول العالم مدينة بصورة أو بأخرى. بعضها الأكبر مدين خارجياً، والبعض الآخر محلياً. وهناك دول تجر فيها الديون بعضها بعضاً.
غير أن اللافت الإيجابي حقاً في الإحصائية التي توصل إليها بنك التسويات الدولية، أن حجم الإقراض تراجع في السنوات الماضية. وهذا الإقراض شَكَّل الشرارة الأولى والكبرى لانفجار الأزمة العالمية، ولا سيما في الولايات المتحدة وأوروبا. وهذه الأخيرة شهد فيها الإقراض أكبر انخفاض مقارنة بغيرها من المناطق الأخرى. وعلى الرغم من أن الأزمة الكبرى "عمولة" الكارثة، إلا أنها فرضت معايير جديدة على القطاع المصرفي العالمي. فحسب خبراء بنك التسويات، فإن هذا القطاع أصبح أقل عمولة. لماذا؟ لأن المصارف باتت تتردد في منح القروض العابرة للحدود، وقد بدا هذا الأمر بوضوح في الربع الثالث من العام الماضي. إن ارتفاع الديون العالمية المتولدة من صعود كبير في سوق السندات، استهدف في الدرجة الأولى مسألة النمو في جميع البلدان المعنية، إضافة طبعاً إلى عمليات إنقاذ البنوك نفسها من الأمواج المتلاطمة التي ضربتها "ولا يزال بعضها في محيطها". ففي هذا العالم لم يعد هناك مجال للاستعراض بتراجع الديون، بل في جودة هذه الديون، وهو أمر ليس من السهل تحقيقه في الكثير من البلدان، ولا سيما تلك التي أصيبت إصابات بالغة من الأزمة الكبرى، ومن غيرها من العوامل التي استجدت لاحقاً.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي