اليأس خيانة

عادة تُكتب الأحداث من بداياتها لنهايتها.. يبدو أني فعلت العكس في كتابة المقال الخامس على التوالي عن ابنتي.
في اليوم الثاني من نيسان (أبريل) سنة 2007 رزقت بغادة التي ولدت في الشهر السادس، وبعد خمس سنوات من ولادتها اكتشفت أن الأمم المتحدة في التاريخ نفسه يوما وشهرا وسنة قررت أن يكون هذا اليوم هو اليوم العالمي للتوحد! يا للمصادفة الغريبة التي تجعلني أتفاءل بأن يكون لتاريخ ميلادها شأن ما.
حين قدمت غادة للحياة لم تكن مرتاحة، مكثت في العناية خمسة أشهر ظلت حبيسة الأجهزة والأسلاك في جسدها الصغير جدا رأيتها بحال أشفق فيها على كبير غريب فكيف بصغير هو جزء مني؟! لكن تلك الأيام وحتى اليوم "غادة" صنعتني بشكل لا يمكنني تصوره، وكل ما أصابها أعتبره مفصلا كبيرا في حياتي غيرني في العمق وفي نظرتي للأشياء وقياسي للحياة ومدى أهمية أمور ومدى تفاهة أمور أخرى، هو اختبار صعب بكل تفاصيله، لكني مدينة لفضل الله تعالى فيه لنعرف ونكتشف أنفسنا أكثر وأكثر من أي ادعاءات قد ندعيها على أنفسنا قبل أن نصاب في المحك.
في أيام مكوثها في العناية المركزة للمواليد، طلبت الممرضات من كل أم أن تسجل صوتها في شريط لتحاكي وليدها فيصبح بإمكان وليدها أن يسمع صوت أمه تعويضا عن وجودها في مكان آخر بعيدة عنه. فرحت بالفكرة كثيرا فذهبت مسرعة لاقتناء جهاز تسجيل صغير كالذي يستخدمه الصحافيون وأخذت شريطا مدته ساعة، في وجهه الأول تلوت آيات وفي وجهه الثاني سجلت حديثا مباشرا مني لغادة أحاكيها كما لو أنها كانت أمامي وأغني لها وأطلب منها أن تشفى بسرعة لأني في أشد الشوق لاحتضانها، إذ كانت العناية وقتها لا تسمح لي بحملها أو لمسها. بعدها اكتشفت أني الأم النجيبة الوحيدة التي سمعت الكلام وسجلت صوتها فإذا بالمواليد الآخرين فوق رؤوسهم تسجيل لأصوات المشايخ والقراء! عدا غادة. في صباح يوم دخلت إلى غرفتها فإذا بممرضتها الشامية تؤنبني بحب بلهجتها "يخرب بيتك شو عملتي فيي ليش هيك عم تحكي في الشريط أطعتي لي ألبي"، قلت لها مازحة: انتظري مني الإصدار الجديد، بعدها كانت غادة لا تنام إلا بعد أن تفتح لها الممرضة صوت أمها المسجل!
هناك تفاصيل في حياة التعب مع التوحد تفاصيل صغيرة جدا لا يمكن الانتباه إليها أبدا في حالة الرخاء قبل أن نحرم منها، هل تعرف الأم مثلا قيمة أن يناديها طفلها؟ وهل تعرف قيمة أن تعرف ما بطفلها حين يبكي؟ وهل تعرف قيمة أن يطلب منها ما يريد بوضوح فيصبح الوصال بينهما سهلا واضحا؟ تفاصيل صغيرة جدا قد تبدو عادية دون أن نتنبه إلى أنها نِعَم كبيرة وضخمة أنعم الله بها على البعض بأن أعطاهم إياها، وأنعم على آخرين بأن منعهم منها ولا مانع يا رب لما أعطيت ولا معطي لما منعت.
فكرة الشفاء من الأمراض المستعصية فكرة عظيمة جدا والإيمان بها أعظم وأصعب. قلة من يؤمنون بالشفاء التام من أمراض أجمع الطب اليوم على أنها مستعصية، وأنا طوال الوقت لم أصنع لنفسي أمل الشفاء لكيلا أتعب بقدر ما صنعت يومي للتكيف معه بأكبر قدر من البهجة. لكني قبل أيام فقط استشعرت كيف أن اليأس من شفاء غادة قد يكون خيانة له، وأن أمل الشفاء حين يرتفع به اليقين ويسمو ويعلو برب السماوات والأرض فإن الله تعالى لا يخيب صاحبه وأن الأمل بالتأمل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي