تعثر المشاريع .. الجشع يعمي المتعاقدين الرئيسيين

إنه لمن المؤسف ما نراه من تعثر المشاريع الحكومية، الذي بلغ ـــ حسب بعض الإحصائيات ـــ ثلث المشاريع القائمة رغم إنفاق الدولة الكثير من المال والجهد والوقت، مما كان له أثر سلبي، مباشراً أو غير مباشر على القطاع العام أو المواطن، وقد أسهب الكثيرون في تأصيل مسببات ذلك والتنظير فيه، وما لفت نظري من تلك الأسباب، وأعتقد أن له بالغ الأثر في حدوث مثل هذه المشكلة، هو التنازل من الباطن لمتعاقد آخر، وأبحث هنا عن الدافع من قيام المتعاقد الرئيس بذلك والمسببات له، ولعلي أبدأ بالدافع الرئيس وراء قيام بعض المتعاقدين الرئيسين بالتعاقد من الباطن مع آخرين، وهو السعي وراء أكبر المكاسب المادية، كيف ذلك؟ ضعف المنافسة في الحصول على مشاريع الدولة الضخمة التي تقدر بالمليارات بسبب صعوبة بعض الاشتراطات، ومن ثم تنازل المتعاقد الرئيس بعلم أو دون علم الجهة صاحبة المشروع لعدة متعاقدين آخرين بعد فرزه المشروع أو تقسيمه لعدة أقسام، ولن يفوز من متعاقدي الباطن بهذا التنازل سوى أقلهم سعراً بغض النظر عن كفاءته، وبالتالي أشبع المتعاقد الرئيس جشعه على حساب جودة المشروع ومدة تنفيذه.
أما الأسباب وراء حصول مثل هذا الخلل فهي قصور لا شك في عدة جوانب من النظام أذكر منها التالي:
1 - إن المفتاح لدخول مناقصة حكومية ضخمة هو عدة أمور أهمها أمران، الأول: وجود التصنيف المناسب، والآخر: تأمين الضمان المالي الابتدائي والنهائي، وهذان الأمران لا يتوافران إلا لدى الشركات العملاقة فقط، ولكن النظام أغفل جانباً أهم، وهو هل الإمكانات الحالية المادية والفنية والبشرية لتلك الشركات قادرة على القيام بمثل هذا العمل بالرغم من التزاماتها التعاقدية القائمة الأخرى؟ في الأغلب الجواب سيكون بالنفي، وبنظري لو كُلفت هيئة أو لجنة لبحث ذلك والوقوف عليه لاستُبعدت من المنافسة الكثير من الشركات التي أعماها الجشع، ولفُتِح المجال للشركات الأخرى القادرة على إنجاز مثل هذا العمل دون الدخول في معمعة وعشوائية التعاقد من الباطن أو التنازل عن المشاريع التي كلفت الدولة الكثير، وأرى أن يضاف في النظام شرط مواءمة المشروع محل الطرح إمكانات المتعاقد الحالية في ظل التزاماته التعاقدية الأخرى بعد الوقوف عليها من مختصين ولا يكتفى لتقييم القدرة والكفاءة بوجود التصنيف والضمان المالي فقط.
2 - تفعيل الفقرة (ج) من المادة الـ 53 من نظام المنافسات والمشتريات الحكومية الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م58) وتاريخ 4/9/1427هـ المتعلقة بفرض عقوبة من جراء تنازل المتعاقد الرئيس عن العقد أو تعاقده للتنفيذ من الباطن دون إذن خطي مسبق من الجهة المالكة، وأقترح أن تغلظ العقوبة الحالية وهي (سحب العمل أو فسخ العقد أو التنفيذ على حسابه أو التعويض عن الأضرار التي وقعت) بأن يضاف إليها فرض غرامة فورية ومنع المخالف سواء كان المتعاقد الرئيس أو المتعاقد من الباطن من دخول أي منافسة حكومية أخرى.
3 - لا يوجد حد أعلى لحجم الأعمال التي يستطيع المتعاقد الرئيس التنازل عنها لمتعاقد آخر (وذلك على فرض قبول الجهة الحكومية المالكة هذا التنازل) ففي وضعنا الراهن يستطيع المتعاقد الرئيس التنازل عن مجمل الأعمال التي التزم بها في عقده الأصلي، وهذا خلل يجب تداركه باستحداث نظام يحدد النسبة التي يستطيع المتعاقد الرئيس التنازل عنها بأن تكون على سبيل المثال 10 - 20 في المائة من مجمل الأعمال شريطة أن يكون التنازل مسبباً بأسباب تقنع الجهة المالكة، هذا خلافاً لضرورة كفاءة وقدرة المتعاقد من الباطن على القيام بمثل هذا العمل.
4 - أرى أيضاً أن من أهم أسباب ضعف المتعاقدين من الباطن والذي انعكس سلباً على جودة المشاريع هو التحكم المطلق للمتعاقد الرئيس في تحديد قيمة الأعمال التي ينوي التنازل عنها أو إسنادها لآخرين، فغالبيتهم أي المتعاقدين الرئيسين سيبحثون بالتأكيد عن السعر الأقل وليس الجودة والكفاءة، وأقترح هنا أن يحدد النظام الثمن سلفاً بأن يكون مثلاً ما يعادل 95 في المائة من قيمة الأعمال المزمع التنازل عنها أو إسنادها لآخرين وتكون نسبة 5 في المائة المتبقية للمتعاقد الرئيس لقاء إدارته هذا العمل وتحمله مسؤوليته.
5 - إن حقيقة الدور الذي يمارسه بعض المتعاقدين الرئيسين عند تنازلهم أو تعاقدهم من الباطن مع آخرين هو إدارة للمشروع فقط، أي أن المشروع بالنسبة لهم هو عبارة عن مهمة لتحقيق أهداف معينة خلال مدة محددة وتكلفة معينة من خلال متعاقدين آخرين من الباطن، ولا أرى ما يمنع من قيام الدولة بهذا الدور من خلال تأسيس شركة مملوكة لها ينحصر عملها في إدارة المشاريع فقط، بل على العكس تماماً ستستطيع الدولة تقسيم المشاريع الضخمة لعدة أقسام وتسليمها لعدة متعاقدين وستقوم هذه الشركة بإدارة هذا المشروع وهؤلاء المتعاقدين بشكل يضمن عدم حدوث الخلل القائم ـــ بإذن الله.
ختاماً .. أرى أن يعاد النظر في مجمل نظام المنافسات والمشتريات الحكومية ولنستأنس بالتجارب الناجحة لبعض الدول ونبدأ من حيث انتهوا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي