السعودة .. وزاجرات الطير

ونحن في قاع الإحباط ما زال يحدونا الأمل وبعض الرجاء. أمل عريض في غد أفضل يحمل بين شموسه أضلع العيد، نفترش على قوارعه بضاعتنا المزجاة وإن كان جلها الهم وسفر الخاطر في غياهب الغد والمستقبل!
السعودة "ويا لها من مفردة عصية على الروح" .. عبثا سوف تجد همّ "جرمنة" الوظائف في مقاطعة بافاريا أو "أمركتها" في كاليفورنيا!
تشغيل المواطن أو همومه بدأت مع بزوغ فجر الدولة أو يجب أن يكون، فهي هموم لا تنفصل وشائجها عن سؤدد الكيان ونمائه وازدهاره، فمنذ بواكير أعمارنا وإكليشهات السعودة لا تفارق محيانا صباح مساء، لكنه ذر رماد وسالفة خبر خير، فالسعودة وممارساتها في واد سحيق، وتوظيف السعودي في واد آخر لا يقل سحقا.
فكل خطط السعودة بلا مبالغة فشلت فشلا لا يخفى على القاصي أو الداني، وما زلنا في التخبط ذاته والانشغال بإطلاق الوعود والأرقام الفلكية التي لا سماء لها تقلع ولا أرض لها تبلع، لأنها ومن يخططون أبعد ما يكون عن نسغ القلب المكلوم وجذور الحنظل المغروس من غسلين صبرنا.
تحتل بلادي المرتبة العشرين بين اقتصادات العالم من ناحية إجمالي الناتج المحلي GDP الذي يقدر فيه متوسط نصيب دخل الفرد بنحو 137 ألف ريال، وهو قطعا لا يعكس الدخل الحقيقي للمواطن السعودي، وذلك ما يعزوه الاقتصاديون إلى خلل هيكلي في منظومة وهياكل الاقتصاد أو إلى عدم العدالة في توزيع الثروة، إما بسبب الـ MISMANAGEMENT (سوء الإدارة)، وإما سرطان الفساد.
بعيدا عن "ستاندرد آند بورز" وأخواتها، فعدد السعوديين "الذكور" الصالحين للعمل هو في حدود أربعة ملايين مواطن، لكن الإحصائيات والقراءات تنبئنا بأن الموظفين فعليا يصل عددهم إلى مليونين فقط، أي أننا أمام نسبة عطالة تصل إلى 50 في المائة، وهي قراءة لا تبشر بخير رغم تقنع العاطلين:
فمنهم سعيد آخذ لنصيبه
ومنهم شقي بالمعيشة قانع
في وقت وصلت الاحتياطيات الأجنبية للمملكة إلى أكثر من تريليوني ريال لتحتل المركز الثالث عالميا، وهو مؤشر حقيقي على عجز وتكلس الاقتصاد السعودي، الأمر الذي يعوق إعادة ضخ وتوظيف هذه النقود في شرايين وقنوات الاقتصاد الوطني.
ما زال الاستمرار الحثيث والمتسارع في ضخ المليارات لتنفيذ المشاريع دونما رؤية وتخطيط في كيفية الاستفادة من هذه المشاريع نحو إنشاء مناخات وبيئة اقتصادية متكاملة، فهذه المشاريع يفترض منها أن تبذل لنا المحفزات وسوانح فرص ذهبية لإنشاء مصانع وخطوط إنتاج لتوريد وتزويد هذه المشاريع بالمواد والعدد والأجهزة ومن ثم يمكن لهذه المشاريع الضخمة والمستمرة توفير فرص عمل جبارة لقطاعات الشباب على المستويين الفني والمهني تحديدا.
ولن نكون أولي بدعة في ذلك، فكل الدول والحكومات تنزع إلى مباشرة تنفيذ مشاريع البنى التحتية (الموانئ ـــ الطرق ـــ الجسور ـــ المطارات... إلخ) كمحرك لعجلة الاقتصاد وزيادة وتيرة التنمية، وتأتي على رأس القائمة كموظف للشريحة الأوسع من قطاع القوى العاملة، ما يقلص شبح البطالة وتأمين دورة سريعة لرأس المال في حدود المحافظة على كبح التضخم.
هنا في وطني تشكل النفقات على مشاريع البنى التحتية من الميزانية النصيب الأعظم من موارد الدولة وإنفاقها، ورغم ذلك لا نرى تأثيرا إيجابيا في سوق العمل وتوفير الوظائف للسعوديين، فالعائد للاقتصاد الوطني من ثرواتها لا يتجاوز في أحسن الأحوال 5 في المائة، فمعظمها يذهب إما:
1 ـــ على شكل تحويلات نقدية من العمالة الوافدة لخارج الوطن، ويكفي أن تقيس مؤشر التحويلات مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي وهو ما يصل إلى 10 في المائة، وهو بالمناسبة رقم فلكي للمؤشرات الاقتصادية وينم عن خلل هيكلي في بنى الاقتصاد الوطني.
2 ـــ وإلى مشتريات لمواد ومعدات وأجهزة مستوردة من خارج الوطن. وكأني بسيرة الإنفاق في وطني ما زادت المواطن إلا ضغثا على إبالة، فهي أسهمت وتسهم في حدوث تضخم في أسعار السلع دون ما يوازيه من توسع وزيادة في دخل وسد حاجة المواطن السعودي، وهو ما يثقل كاهل ذلك المواطن الصالح ويحمله أعباء معيشية لا قبل له بها ولا ناقة له فيها ولا جمل. وما يحدث عمليا هو تكريس وتركيز للثروة لدى فئة محدودة من المجتمع السعودي، وهم رجال الأعمال أو من سار في أفلاكهم.

سادتي
عود على بدء والعود أحمد، فكما أسلفنا فمشاريع البنى التحتية ينتظر منها أن تكون رافعة للاقتصاد الوطني عوضا عن أن تكون عبئا وحملا يعرقل التنمية ويكرس للطبقية الاجتماعية وتآكل الطبقة الوسطى، وهو ما ينذر بخلل في الأمن الاجتماعي واستشراء الإحباط والدعة لدى طبقة واسعة من الشباب.
السعودة والتوظيف لا يمكن أن تنجح بالطريقة نفسها التي تتم بها الآن ولا يمكن إيلاج هذا الجمل (البطالة) في سم الدكاكين ومؤسسات المقاولات الصغيرة والقطاعات الناشئة التي تحتاج إلى العون قبل أن تعين.
يا وزارة العمل التليدة فكري خارج الصندوق Box، فالاستمرار الحثيث في انتهاج المعالجات نفسها يعد نوعا من التكبر على فهم الواقع.
حيث لا يمكن إسقاط مفاهيم وتجارب بالية فشلت مرة بعد مرة أو كتلك التي تنتمي لاقتصادات وتجارب العالم الأول أو الثاني على اقتصادنا، فكل ثقافة وكل اقتصاد وكل شعب له ثوبه وله مقاسه وله ترزي وهنداسه.
فأغلبية ما يسمى بالقطاعات أو المنشآت الصغيرة أو المتوسطة في العالم الآخر والضفة المقابلة هي ليست محال أبو ريالين وحلاقة وبقالات ومغاسل، بل هي قطاعات صناعية حقيقية منتجة ذات قيمة مضافة.
والقطاعات القادرة على توظيف كل السعوديين وبحسب مقاسات الاقتصاد السعودي "والاقتصاد السعودي فقط"، بالأحرى هي شركات الإنشاءات والمقاولات والتعهدات الضخمة Mega Projects.
وبيت القصيد والمرام، أن تعاد هيكلة شركات المقاولات والتعهدات والصيانة والتشغيل الكبيرة المعنية بمشاريع البنى التحتية ومشاريع الإنشاءات الضخمة كشركات بن لادن وسعودي أوجيه على سبيل المثال لا الحصر، فعائدات هذه الشركات توازي عائدات كبريات الشركات الوطنية والشركات المساهمة المماثلة لشركة سابك والاتصالات ومعادن وموبايلي والقائمة تطول وما تقصر.
القرارات السليمة والواعية لحدود المسؤولية عادة ما تحدث الفرق في حياة الشعوب، وفي رأيي، أنه حان الوقت لأن تقوم الدولة بشراء حصة في الشركات المذكورة وطرح الباقي للمساهمة العامة، وإن استعصى ذلك فمن المجدي أن تقوم الدولة مشكورة بإنشاء شركات مقاولات وتعهدات وصيانة وتشغيل تتولى الأعمال الضخمة والمشاريع الكبيرة، فهي القنوات والمنشآت المعنية والصحيحة لاستيعاب شريحة واسعة من الشباب السعودي والقوى العاملة الباحث عن العمل، فهي وببيانات اليوم تستوعب فوق ستة ملايين وافد.
كوريا والصين انطلقت ثورتاهما الإنتاجية والصناعية من هناك، من حيث الرؤية الشاملة التي تبدأها الدولة كراع وحاضن ومسؤول وداعم ومخطط.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي