أزمتنا القادمة أزمة قيادات

بينت في سلسلة مقالات سابقة أهمية تعيين قيادات من الداخل (من داخل المنظمات)، وعرضت تألق بعض الشركات لقرون بسبب إدراكها مبكرا مبدأ الخلافة وتمكين موظفيها الأكفاء من المواقع الإدارية الجوهرية بعد تدريبهم وإعدادهم. كما بينت أيضا جنوح بعض المؤسسات عن طريقها وبعدها عن جوهرها وكفرها بمبادئها بعد أن كانت تنافس بحدة بسبب نقص مخزونها من القيادات، ما اضطرها إلى الاستعانة بآخرين من خارج الشركة فأبعدوها عن جوهرها وأضاعوا هويتها وأفقدوها الكثير من الفرص، فضلت الطريق وفقدت البوصلة حتى أصبحت أثرا بعد عين.
وفي هذا المقال أريد أن أعرض الطريقة العلمية لاختيار القيادات حسبما هو موثق في أدبيات القيادة والأعمال، وأذيل المقال بسببين يعدان جوهريين وراء تعيين وتنمية قيادات من داخل المنظمات.
يجب أن ندرك أولا أن عملية اختيار القيادات ليست بالأمر السهل، فهي مهمة معقدة ومضنية وشاقة وشاملة وطويلة وتحتاج إلى صبر وفطنة، لكنها إن ترسخت كعرف يعد تجليا لتراث المنظمة وعرفا من أعرافها، ولن يستطيع أي قائد يأتي أن يغير طريقة اختيار القيادات وإلا كان مصيره الطرد والإبعاد، لكن ما الطريقة المثلى لاختيار القيادات؟ للوصول إلى قادة أفذاذ داخل المنظمات؟ على المدير التنفيذي أن يمضى سنوات من عمله القيادي يعد ويختار موظفين كي يكونوا يوما من الأيام قيادات، وتعد هذه مهمة أساسية من مهامه الوظيفية كالتخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة.
من المفترض أن يبدأ المدير التنفيذي لأي منظمة بإعداد قائمة بمرشحين لتولى أعمال قيادية بناء على معايير حرة عادلة، من أهمها الاستعداد للعمل القيادي والقدرة على الإنجاز وطاقة المرشح وسنه ومدى استيعابه رسالة المنظمة ووضوح الرؤية في ذهنه. وقد يستغرق إعداد هذه القائمة سنين تبدأ بقائمة مبدئية تضم العشرات حسب حجم المنظمة ونشاطها ومواردها البشرية، لكن يجب ألا تزيد القائمة على 100 مرشح جميعهم من داخل المنظمة، ثم يتم تخفيضهم إلى عدد أقل إلى 70، فـ 50 حتى يصل العدد إلى ما يقارب عشرة مرشحين. بعد ذلك يتم تعيين كل مرشح منهم ـــ دون علمه بأنه تحت الاختبار ـــ مديرا لأحد القطاعات، بحيث يكونوا مسؤولين مباشرة أمام المدير التنفيذي. بعد ذلك بسنوات يوضع المرشحون أمام تحديات حقيقية ومقابلات ومسابقات في مهارات عدة، منها كتابة التقارير وإدارة الاجتماعات ومعالجة الصراعات داخل المنظمات واتخاذ القرارات الجوهرية ومقدرتهم على تقييم أتباعهم بعقلانية. كما يتم قياس مقدرتهم على التقييم الشامل والتأكد من امتلاكهم طاقة هائلة للعمل ومقدرة على تحفيز الآخرين على مبدأ العدالة. فالطاقة الهائلة من مقومات القائد الناجح، فلا يكفي أن يمتلك المرشح للقيادة المقدرة على اتخاذ القرارات والمقدرة على إدارة الاستراتيجيات دون أن تكون لديه طاقة هائلة في العمل ومقدرة على الإنجاز في الوقت المحدد. وفي النهاية يتم اختيار مرشح واحد فقط من هؤلاء ويبقى الآخرون كمخزون للمنظمة لأى طارئ قد تحتاج إليه، فأكثر ما يفقد المنظمات اتزانها النقص الشديد من القياديين الأكفاء.
وبعد أن عرضنا نماذج للشركات الناجحة التي بقيت متألقة بسبب تعيين قيادات من الداخل (المقال الأول) وتلك التي قضت نحبها، بعد قرون من النمو والاستقرار بسبب دخول الغرباء بيئتها التنظيمية (المقال الثاني)، دعونا نختم ونبين أهمية تعيين القيادات من الداخل، ولماذا تسعى الشركات العملاقة التي تريد البقاء إلى ذلك، وتبذل الغالي والنفيس في تنمية المواهب الإدارية الداخلية. يرى أغلبية منظري الإدارة والأعمال أن هناك سببين رئيسين يقفان وراء حرص المنظمات على تعيين قيادات من الداخل، يمكن إيجازهما فيما يلي:
1 ـــ أهم سبب وراء التقيد باقتصار تعيين القيادات من الداخل هو الاستمرار في المحافظة على الجوهر وتحفيز التقدم، خصوصا في الشركات التي بنت وجودها على مبدأ المنظمة الرائدة وليس على مبدأ القائد الفذ. فعند تعيين قيادات من الداخل هم في الأصل موظفون تربوا في أحضان الشركة وتشربوا قيمها وعرفوا وأدركوا رسالتها حتى ترسخت في أذهانهم وأصبحت معتقدا يؤمنون به ويدافعون عنه. أما من يأتي من الخارج فلا يعلم عن رسالة المنظمة شيئا، ولو علم فلم يدخل الإيمان قلبه، لأن هذا يحتاج إلى وقت حتى يقتنع ويصبح مضمون الرسالة اعتقادا يؤمن به ويدافع عنه. وقد يرتكب الوافد الجديد بعض المخالفات التي ترسخت في سلوكيات وأعراف منسوبي الشركة وأصبحت على شكل قيم جوهرية أو أعراف تنظيمية فتنشأ الصراعات بين الغرباء ومنسوبي المنظمة، لأن عناصر الثقافة التنظيمية تعتبر خطوطا حمراء يتآمر كل من في الداخل على من يتعدى عليها أو ينال منها.
2 ـــ السبب الرئيس الثاني في سعى المنظمات الناجحة إلى تعيين قيادات من الداخل، إيمانهم بأن هذه أهم أنواع الحوافز وأكثرها تأثيرا في منسوبيها، فتنظر المنظمات إليه على أنه نوع من أنواع الحوافز يؤدي وظيفة سامية، حيث يربط منسوبي المنظمة ببعضهم وينمي في أنفسهم المحافظة على سمعتها والذود عن كيانها. فإذا تيقن منسوبو المنظمة بأن المواقع القيادية تنتظرهم وهي في نهاية الأمر من نصيبهم وحكر على الأكفاء منهم، فهذا يحمسهم على العطاء بشغف والاستمتاع بالعمل، ولن يترددوا في تحسين صورة منظمتهم والذب عنها والوقوف معها إبان الأزمات، وكل موظف سيصبح إدارة علاقات عامة لمنظمته من حيث يدري ولا يدري، بخلاف لو تم تعيين قيادات من الخارج، فهذا يعنى التخلي عن الأتباع، حيث ينظر منسوبو المنظمة إلى أنفسهم على أنهم قطيع يبنون منظمة للأغراب، فكيف لهم أن يعملوا وينجزوا ويدافعوا ويبنوا منشأة، وفي نهاية الأمر يتولى المدير التنفيذي للشركة والإدارة الرئيسة لها عناصر من الخارج.
إن بناء المنظمات ليس بالأمر الهين، وبقاؤها لسنوات من التألق يعد عبقرية، وهذا يحتاج إلى رجال أفذاذ يملكون القدرة والرغبة والمعرفة على إدارة المتناقضات داخل المنظمات، لذا يجب أن نهتم كثيرا باختيار القيادات، فأزماتنا القادمة أزمة قيادات، لأن الأفذاذ في مؤسساتنا لم يمكنوا وإن مكنوا فلم يدربوا ونراهم يمارسون أعمالا بأسماء قيادية لسنوات يتوهمون أنهم يؤدون أعمالا قيادية، بينما عملهم في الأصل لا يتعدى أعمال السكرتارية وإدارة الاجتماعات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي