كوميديا في عالم التوحد
على مدى أربع سنوات وأنا أتنقل من مركز إلى آخر بحثا عن الأفضل لبنتي غادة، ولو دعت الحاجة للاتفاق مع معالجين إخصائيين يأتون إلى البيت، المهم أن أحظى بمن يفهم جيدا في التوحد، وما بين هذا وذاك تحصل قصص، مفادها بأن كثيرا من إخصائيي التوحد هم في حاجة ماسة إلى إخصائيين يخضعونهم لعلاج!
الصدمة الأولى إحداهن كانت تبدي خبرتها في المجال على أكمل وجه ممكن، خصوصا حين علمت بأني ما زلت في بداية المشوار، ضربت لي أسعارها وفتحت لها الأبواب ثقة بها، كانت أحيانا ترفع صوتها وأستغرب ما سبب رفع الصوت وبنتي غادة تسمع! لاحقا فهمت السبب، دخلت إليها مرة فوجدت غادة نائمة وهي مستمرة في الشرح وبصوت عال، وذلك بكل بساطة كيلا تخسر قيمة الجلسة التي أتت تقبض لأجلها.
أما الآخر فكان يعلمها التواصل بالإجبار، وكأنه لا يدري أن أساس اضطراب التوحد يكمن في التواصل، فإذا رأى التوحدي أن من أمامه لا يتقن الشغلة فلن يستجيب له؛ لأنه ببساطة لا يملك المفتاح!
مرة دخلت على إخصائية نطق تفاءلت بها حين أغدقت علي مشجعة بشاشتي رغم توحد طفلتي، ولو أني اقتنعت أخيرا أن «الانشكاح» في الحياة ليس له علاقة بالظروف. أذكر نفسي بأيام المتوسط كنت أبكي بدون سبب، أعتقد أن دفتر الخواطر الذي آخذه معي في كل مكان كان هو السبب! كنت مقتنعة أن دفتر الخواطر هو لتدوين الأحزان حتى لو لم تكن تلك الأحزان موجودة! وحين كبرت وأصبح لدي الأحزان التي يحكي عنها الناس عرفت ببساطة أن الضحكة شروطها أقل من الدمعة، وعرفت أنه بإمكانها أن تبسط كل تعقيدات الحياة، وأن الدمع يجب أن يقوم بالمهمة نفسها في تبسيط المهمات، وإلا فليس له حاجة، الجملة الأخيرة تفهمها النسوة أكثر من غيرهن. المهم، أعود لإخصائية النطق. كأم أجيد قراءة عيون طفلتي، أقوم بدور ساعي البريد بين غادة ومن معها، جلست غادة تنظر إلى الأخت الإخصائية في الطاولة من فوق لتحت وما خابت نظراتها، حين اقتربت الإخصائية أغلقت الطاولة على غادة حتى كادت أن تكتمها، كان الجدار خلف غادة والطاولة أمامها، البدايات توحي بجلسة ذات طابع عقابي وكأنها للمصادرة وليست جلسة تهدف للتدريب على "التواصل"، ابتسمت وفي قلبي ضحكة وقلت لن أتدخل سأكمل التفرج على المشهد، جلست الإخصائية- ذات الوزن الثقيل ـــ أمام البنت وقالت بصوت مزعج: رددي خلفي، كانت تطلب منها أوامر محددة وغادة تجيب، إلى أن بدأت الإخصائية مرحلة خطيرة وهي مرحلة تستشير فيها غادة وتجيب عنها، قالت لها: "غادة تبين حلاوة"؟ وكان الواضح على محيا غادة وقتها أنها "لا تريد" ومع هذا مع سجن الطاولة أمسكت رأس غادة بقبضتها القوية كي تومئ به تعبيرا عن نعم، قائلة لها بصوت مزعج: قولي نعم، فالتفتت إلي تطلب مني المساعدة لتنطق غادة بـ "نعم"، أخيرا جاء دوري! قلت بسرعة ودون تردد: "غادة قولي لا"! انصدمت الإخصائية فقالت: "لِمَ تفسدين عليَّ جلستي؟ فاحتجت أن أشرح لها أن هدف الجلسة هو المساعدة للتعبير عن الذات لأجل التواصل وليس لإجابة الأوامر فقط، الواضح أنها لا تريد الحلوى وأنت تجبرينها على قول نعم، ما جدوى أن تنطق بـ "نعم" إن كانت لا تعبر عنها، فلتنطق الكلمة التي تعبر عنها؛ لأن النطق في حد ذاته ليس هدفا. النطق دون هدف لمجرد الترديد ليس نطقا، والنطق لإجابة الأوامر ليس نطقا أيضا، النطق يجب أن يكون تعبيرا عن الذات، صمتت وأنهت الجلسة غير مأسوف عليها. ولقصص النطق بقية.