كيف تخدعنا السلطة؟

كثير من الفلاسفة فككوا لنا الأساليب التي تعتمدها السلطة في خداعنا ولا سيما من الذين ركزوا على فلسفة الخطاب واللغة. ومن خلال ما تعلمناه منهم صار بإمكاننا اليوم إلقاء نظرة متفحصة على نصوص كتابية أو غيرها وقراءة ما يدور في رأس كاتبها أو قائلها وهو غالبا يخالف متنها ويعارض ما أتى فيها من أفكار.
إذا كان بإمكان باحثين جامعيين معنيين بدراسة وتحليل الخطاب الكشف أو رفع النقاب عن الوسائل التي تستخدمها السلطة لخداعنا، فلماذا يتشبث أصحابها بمواقفهم ويصرون على ممارساتهم؟ وكيف يتسنى لهم ذلك؟
هناك أجوبة متعددة وتفاسير مختلفة لهذا السؤال المهم. أولا، السلطة حتى في الدول التي تدعي أنها أكثر ديمقراطية وحرية في العالم تملك الوسائل التي تجعل من خداعها للناس يبدو كأنه حقيقة ثابتة. ثانيا، الشعب - وهنا أفضل شخصيا المفردة العربية “الرعية” - يقبل لا بل يهضم وبسرعة ما تلقنه السلطة ويتقبله وكأنه أمر واقع ومن المسلمات.
وكلنا، شئنا أم أبينا، جزء من “الرعية” - مثل عامة الناس ننظر إلى السلطة وأصحابها بمثابة “رعاة” نتنازل لهم عن مصالحنا ونمنحهم حق تدبير أمورنا بالشكل الذي يرونه وغالبا دون تحد أو حتى مناقشة أو حوار من قبلنا.
ولهذا يتمادى أصحاب السلطة في غيّهم ليس فقط في الدول التي نراها استبدادية تفتقر إلى الديمقراطية وفصل السلطات الدستورية مثل التشريع والقضاء والتنفيذ، بل في دول تتباهى بمؤسساتها الديمقراطية وتتبجح بما تمنحه لشعبها “رعاياها” من حريات.
أظن أن أغلب القراء على دراية بقضية إدوارد سنودن الذي عمل لدى وكالات الاستخبارات والأمن الأمريكية وما سربه من تفاصيل تظهر ألا حصانة وحرية لأي فرد ليس في أمريكا بل حتى خارجها ومن ضمنهم رؤساء دول كبرى حيث تُراقب حتى هواتفهم ومكالماتهم الشخصية وما خفي أعظم.
بيد أن ما أدهشني وهز كياني كانت التسريبات الأخيرة التي نقلتها الصحافة العالمية حول الدور الذي تلعبه الطائرات دون طيار في الشرق الأوسط حيث تتعرض بعض الدول العربية والإسلامية إلى موجات مستديمة من الغارات بهذه الطائرات.
البرنامج الذي تطبقه أمريكا ومعها بعض الدول الغربية في مجال الطائرات الحربية المسيرة يوقف شعر الرأس، وهذا بشهادة القائمين عليه من الذين هزتهم مشاعرهم الإنسانية ولم يتمكنوا من التواصل رغم المغريات الكبيرة.
هذه الطائرات قمة في التقدم التكنولوجي تحمل كاميرات فائقة التطور ترسل صورها المتحركة مباشرة إلى مراكز القيادة، حيث يقوم الخبراء بتحليلها للتأكد من أنها أصابت الهدف المحدد أي ما يعدونه عدوا أو “إرهابيا” أم لا.
ما تم تسريبه من بعض العاملين في هذه المراكز مدهش حقا. هناك بعض العاملين من انتحر لهول ما شاهده من فظائع تقترفها هذه الطائرات ومنهم من أصيب بمس من الجنون وهو يقبع في مستشفيات عقلية وآخرون غادروا مناصبهم دون عودة وهم يعانون جسديا وعقليا ويشعرون بذنب كبير.
بعضهم كانت لديه الشجاعة لكتابة تقارير لصحف ووسائل إعلامية واسعة الانتشار يفضحون فها السلطة التي تقدم لنا هذه الطائرات وكأنها بريئة وتحدد هدفها بدقة متناهية وإذا بنا أمام وحش تكنولوجي ليس بإمكانه التمييز بين فلاح يحرث أرضه بمحراث أو معول أو مجرفة وبين “إرهابي” يحمل قنبلة أو بندقية أو صاروخا.
وفي غرف المراقبة وشاشاتها تلتقط صور اطفال ونساء وفلاحين وأناس أبرياء تفتك به صواريخ “هيلفاير” (نار الجحيم) وهم يهرعون والدماء تسيل من أجسادهم صوب أماكن قد تكون أكثر أمنا.
ما يصل الإعلام وعامة الناس حسب التسريبات هذه ما هو إلا معلومات مضللة عما تقوم به “تكنولوجية منحرفة” تغير على مواقع وأشخاص غالبا لا يمكن التأكد من كونهم يشكلون خطرا. “دائما كنا نتساءل هل أننا قمنا بقتل الأشخاص الذين حقا يستحقون القتل”، هذا ما قاله واحد من العاملين بعد تركه منصبه.
التسريبات عن فظائع هذه الطائرات غطت صفحات الكثير من الصحف الكبيرة ولكن السلطة لم تهتز لأنها تملك كل المقومات التي تمكنها من خداع الناس.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي