إلى قطاعات الأعمال .. احذروا هؤلاء
ذكرت في مقال الأسبوع الماضي استهواء بعض مؤسساتنا اختيار القيادات من خارج بيئتها التنظيمية، ولجوء كثير منها إلى عناصر خارجية لتولي مواقع قيادية مرموقة، أو مهام إشرافية عالية، أو أداء أعمال استشارية جوهرية، فينظر هؤلاء القادمون من خارج المؤسسة إلى أنفسهم كأنهم قادة أفذاذ أو مستشارون أنجاب، أتوا يلقنون من في الداخل كما يلقن المعلم تلميذا في مدارس محو الأمية، ما يسبب هدم الولاء قبل اكتماله وغرس الضغينة في نفوس الأتباع، وهذا يؤدي بدوره إلى التعامل بصمت وهدوء مع هؤلاء القادمين من الخارج، ومحاولة إفشال مساعيهم وإبطال جهودهم. والعيب ليس في هؤلاء القادمين من الخارج ولا في العاملين في الداخل، بل في متخذي قرار جلب قيادات من الخارج إلى ميدان الأعمال وتمكينهم من مواقع قيادية حساسة، فُينظر إليهم على أنهم أتوا دون حق فيحيطون بهم من كل جانب ويقعدون لهم كل مرصد حتى يخيبوا مسعاهم ويفشلوا مهمتهم، لأن نجاحهم فشل ذريع لأهل الدار من الأوفياء.
وذكرت في المقال ذاته أن المنظمات الناجحة حول العالم منذ تكوين مؤسسات الأعمال من قرون عدة تمقت تعيين قياديين من الخارج، ولم تسع لذلك إلا في أضيق الحدود وفي ظروف استثنائية، وتسعى بدلا من ذلك إلى الاستثمار في مواردها البشرية وصقل مواهبهم من أجل تولي أعمال قيادية ومواقع إشرافية. وذكرت أن السبب الجوهري لبقاء بعض المنظمات قرونا يتمثل في تعيين القيادات من الداخل بعد إعدادهم وصقل مواهبهم وتمكنهم. ومن أهم هذه الصروح شركة جنرال إلكتريك التي فطنت مبكرا كغيرها من المنظمات العملاقة إلى كسب ولاء منسوبيها وربطهم بمنظمتهم بتمكينهم وإعداداهم كقياديين مخلصين، فاستمرت منظماتهم في تألق مستمر، وصعود ثابت، ونشاط متقد، وشباب لم يمسه الهرم، ونشاط لم يدب فيه الوهن، وولاء لم تشوبه الخيانة.
وقبل أن ننتقل إلى تبيان الآثار المدمرة لتعيين القيادات من خارج المنظمات، ونعرض النهايات البائسة لبعض المنظمات بسبب تعيين قيادات من الخارج، دعونا نستعين بمثال آخر كي يرسخ في أذهاننا أهمية السعي مبكرا إلى تنمية الموارد البشرية الداخلية وتمكينهم من الأعمال القيادية. فهذه شركة بروكتر آند جامبلP&G - Proctor & Gamble إحدى الشركات الاستهلاكية العملاقة التي تضم بين جنباتها نحو 300 علامة تجارية مختلفة، وهي الشركة التي تنافس نفسها بنفسها، لأنها لا ترى في الساحة ندا لها. تبيع "بروكتر آند جامبل" سبع علامات تجارية من منظفات الملابس من بينها "تايد"، التي تعد هذه من أغلى العلامات التجارية بعد "كوكاكولا" و"فورد". كما تبيع "بروكتور آند جامبل" خمس علامات تجارية من الشامبو من أشهرها "هيد آند شولدرز" وعلامتان تجاريتان من الحفائظ من أشهرها "بامبرز"، إضافة إلى منتجات مناديل الورق، والمناشف، ومزيل العرق، والصابون، ومستحضرات التجميل، وجرعات رعاية الجلد وغيرها.
ونحن نتساءل: كيف وصلت إلى هذا الإبداع وهذا التنوع الرأسي والأفقي؟ وكيف حافظت على هذا التألق لأكثر من قرن من الزمن؟ وهنا تأتينا الإجابة من أعماق الشركة المتمثلة في مهمتها المقدسة في المحافظة على الجوهر وتحفيز التقدم، وهذا لن يتم إلا بتعيين قيادات من الداخل ترسخت في أذهانهم قيم الشركة وسرت في دمائهم معتقداتها وألفت نفوسهم أعرافها. فـ "بروكتر آند جامبل" لم تعان كثيرا من التقلبات الإدارية التي تهز استقرار المنظمات، ومنها منافستها العتيدة "كولجيت"، كما ذكر ذلك مؤلفا كتاب "البقاء من أجل البقاء". فقد كان مؤسس الشركة كوبر بروكتر يهتم كثيرا بإعداد القادة ـــ كما كانت تفعل ذلك أغلبية الشركات العملاقة ـــ ولم يعرف عنها أنها استعانت بقياديين لتولي منصب المدير التنفيذي من خارج الشركة منذ 100 عام.
لقد أدركت "بروكتر آند جامبل" ـــ كما أدركت "جنرال إلكتريك" من قبل ـــ أهمية التطوير المستمر للمواهب الإدارية ورعايتها وتبنيها وتنميتها حتى لا توجد ثغرات خلافة في أي مستوى، وكي تحافظ على عقيدتها الأساسية في كل جزء من أجزاء الشركة. وذكرت ذلك مجلة "دينز رفيو" في تعليقها على منهجية "بروكتر آند جامبل" في عملية اختيار القادة فقالت: "إن برنامج "بروكتر آند جامبل" لرفع كفاءة المديرين يعد برنامجا شاملا ومتوافقا، حتى أن الشركة لديها مواهب إدارية نفيسة ومخزون من القيادات الفذة في كل وظيفة وفي كل مستوى إداري ولـ "بروكتر آند جامبل" شخص أو شخصان في كل موقع قيادي، خصوصا في الإدارة العليا يتمتعان بمستوى الكفاءة نفسه ويمكنهما تولي مستوى المدير التنفيذي إذا ما دعت الحاجة إلى ذلك". وبهذا نستطيع أن نخلص إلى أن "بروكتر آند جامبل" لم تعان يوما من الأيام شح القيادات المؤهلة، ولم يحدث أن كان لديها ثغرة إدارية بسبب الإعداد المبكر والمستمر للمواهب الإدارية والتنمية المتواصلة لإعداد القادة من الداخل، وبهذا فلا داعي للتساؤل: لماذا بقيت هذه الشركة أكثر من قرن من الحيوية والنشاط والاتقاد، فسبب بقاء المنظمات سنين عددا وسر تألقها هو السعي في تهيئة وتعيين قيادات من داخل المنظمات بعد تدريبهم وإعدادهم وفحصهم.
وحتى يتجلى لنا الجزء الآخر من الصورة سنعرض في مقال قادم ـــ بإذن الله ـــ الحالة التي وصلت إليها المنظمات التي كانت فلسفتها مبنية على الاستعانة بقيادات من خارج بيئتها التنظيمية فنرى كيف كانت نهايتها وكيف تم إفلاسها وانكسارها وفي أحسن الظروف دمجها مع منافسيها.