زيارة مفاجئة .. غداً
كان الأمير فيصل – رحمه الله - يجول في الشوارع عندما كان رئيساً لمجلس الوزراء. يحضر الحفلات ويشارك في أفراح الناس وأتراحهم وكثيراً ما مر بالمواطنين وأخذ آراءهم في قراراته مباشرة. روى لي أبي - رحمه الله - حادثة مر بها عسكري كان خارجاً من مقر حراسته باتجاه ما سمي "القشلة" حيث يسكن الأفراد العزاب. عندما شاهد الأمير العسكري أمر سائقه بالتوقف, وعرض عليه أن يوصله حيث يريد. استوى العسكري في مقعد السيارة فسأله الأمير – وكان العسكري لا يعرفه – ما رأيك في الأمر الذي أصدره الأمير فيصل بإيجاد معاش تقاعدي للعسكريين؟ وقد كان الأمر مثار جدل في تلك الأيام.
تكلم العسكري بلهحته البسيطة وأبدى انزعاجه من القرار قائلاً: أنا أريد أن أعيش اليوم, والراتب ما يكفي فكيف يأخذون منه المزيد؟ حاول الأمير أن يشرح له أن الراتب التقاعدي يفيده في كبر سنه وحاجته, لكن الشاب لم يكن تفكيره يتجاوز اليوم, فكيف بما بعد 30 سنة؟ المهم أن الأمير أوصل العسكري وعندما وصل بوابة القشلة, ونزل الراكب لاحظ أن زميله الذي يحرس البوابة أدى التحية العسكرية للرجل الذي كان يركب معه. فتوجه إلى زميله في وجل وسأله من هذا الذي تؤدي له التحية؟ فقال هذا الأمير فيصل. ندب العسكري حظه وتوقع من العقاب أسوأه, لكن الأيام مرت ولم يحدث شيء سوى أن الأمير أصدر قراراً بدعم رواتب صغار العسكريين بما يعادل قيمة الحسم الذي يوجه لصندوق التقاعد.
وعلى ذكر الملك فيصل, فقد كان الرجل دقيقاً للغاية في حياته لدرجة أن اثنين من مستشاريه تراهنا على المدة التي يكمل فيها الملك تناول التفاحة, وحدداها بالثانية. أذكر أنه كان من أجمل ما يحدث معي أنا وزملائي في صيف الطائف التي كانت مصيفاً لكل الدولة التوجه في العصر إلى "الركبان"، حيث ملاعب الكرة ومراقبة الشارع حتى يمر موكب الملك فيصل - رحمه الله -، وبعفوية يصفق الجميع ويرد عليهم بتحية وابتسامة في أحيان كثيرة.
تلك فترة لم يكن فيها لأحد موكب سوى الملك فقط. عشنا لنرى المواكب تزاحم الناس في الطرقات. لدرجة أن أحد كبار الضباط أحيل على التقاعد بسبب "فزعته" مع أحدهم وتكليف دورية معه من المطار إلى منزله. اختفت لفترة المواكب، ويبدو أنه تم تقنينها بشكل لم تعد معه تسبب الإزعاج الذي كان في فترة من الفترات.
إلا أن المناطق البعيدة عن المركز استمرت في تنظيم المواكب لكل من يأتي لزيارة المنطقة سواء جامعة أو مدرسة أو ضيفاً أجنبياً، المهم أنهم كانوا يستعرضون عضلاتهم على المواطنين بغلق الشوارع والحركة الدائبة للدوريات التي تمنع الدخول على الطريق قبل وصول الموكب بساعة أحياناً، وكأنهم يدلُّون على مكان من هم مكلفون بحمايتهم. إلا أن المقطع الذي شاهدناه على اليوتيوب لموكب تألف من أكثر من 50 دورية أظهر أكبر موكب في التاريخ – في اعتقادي.
جمع ذلك الموكب كل العناصر المسؤولة عن الأمن، وكل مكبرات الصوت التي توافرت لها، وكل "البراقات" والتجاوزات التي يمكن أن يتوقعها أي شخص. لم أفهم من أين جاءت كل هذه الدوريات إلى موقع ناءٍ تنطلق الحركة فيه لمدة شهر في السنة، ولماذا لم يتم محاسبة من اشتركوا في تلك المظاهرة العجيبة الغريبة؟!
أعود للدقة التي تمتع بها المرحوم فيصل بن عبد العزيز، وهي ما نفتقده اليوم. أصبح كل شيء يتم دون التزام بالوقت، ودون احترام له، بل إن المستغرب أن تشاهد شخصاً منضبطاً، فيضرب به المثل في الالتزام، لأن الأغلبية غير ذلك. لعل هذا ما دفع أحد المسؤولين لكتابة تغريدة تقول: غداً ستقوم إدارة التفتيش بزيارة مفاجئة لفرع الوزارة في المنطقة الفلانية. أقول قد يكون على علم أن الزيارة لن تتم لأن التسويف أصبح قاعدة. أو أنه يعلم أن موظفي المنطقة يعلمون أن الزيارة آتية, لأن الإجراءات الإدارية المتعلقة بالزيارة تستهلك أياماً كإصدار أوامر الإركاب وقرارات الانتداب. لكن الاحتمال الأهم هو أن المسؤول أراد أن ينبه مدير المنطقة ليجهز السكن المناسب و"المفطحات" اللازمة في نهاية مثل هذه الزيارة، ولا مانع من موكب مصغر للضيوف.
يبقى الوعد بما سيحدث في الغد عرضة للخُلف. لأن الناس لم يتعودوا أن يكون الوعد محترماً في هذه الأيام، ومن ذلك ما تكرم بتغريده أحد رؤساء التحرير عندما وعد بأن تحمل صحيفته في الغد خبراً عن رفع رواتب موظفي الدولة. قد يكون هدفه زيادة مبيعات صحيفته، من خلال خبر مفبرك يتحدث عن مناقشة مجلس الشورى زيادة الرواتب. لكنه في الواقع أفقد صحيفته المصداقية بعد أن نفدت كل النسخ، وخسر المواطن من راتبه ريالين.
صورة أخرى تمثلها الوعود الكبرى التي تنعش الأسواق وتحرك تداولات الأسهم وتضيف المزيد من الضحايا لعمليات تشغيل الأموال. عندما يقدم أشخاص ممن يثق بهم المواطن وعوداً قطعية بالأرباح والفوز والفلاح في مجالسهم ومنتدياتهم وتغريداتهم، ليحولوا المزيد من رؤوس الأموال باتجاه أو آخر، هم يساهمون في تلك الخديعة التي يقع ضحيتها من يصدقون الأخبار من البسطاء.
الوعد بما سيكون غداً أمر يجب ألا يمر مرور الكرام. المحاسبة لأولئك الذين يقطعون العهود ولا يفون، خصوصاً من يحتلون مواقع حكومية مهمة، أمر يعيد للمجتمع المصداقية. ويجعل كل واحد يحاسب نفسه قبل إطلاق تصريحاته.
قيام الجهات الأمنية والمسؤولة عن مواقع التواصل بالتعامل مع من يسيئون استخدامها ويخدعون الناس أمر لازم كذلك. أما أن تقوم سيارات الشرطة بحماية مكاتب مشغلي الأموال وتنظم السير خارجها، ثم يُلام المواطن لأنه وثق بمشغل الأموال فذلك لعمري جريمة في حد ذاته.