قرار عقيم يفاقم المشكلات في جامعاتنا
نلاحظ قيام بعض المؤسسات الأكاديمية باستقطاب موارد بشرية وخبرات من خارج بيئتها التنظيمية تتولى أعمال قيادية أو تؤدي مهام استشارية وهذا خطر عظيم وقرار إداري عقيم يفاقم المشكلات ويبرز العديد من الصراعات ويفقد منسوبي المنظمة ولاءهم.
فكل الذي يأتون من خارج الجامعة للعمل القيادي أو الاستشاري ينظر إليه ممن بالداخل على أنهم غرباء أتوا من منظمات أخرى تختلف في بيئتها التنظيمية، ورسالتها، وأهدافها. فعادتا ما يتفاخر منسوبو المنظمات بقدراتهم وخبراتهم ويتباهون بأقرانهم من داخل المنظمة ويرون أنه طالما هناك عناصر داخلية تم تمكينها من مواقع قيادة داخل الجامعة أو أوكل إليها أعمال استشارية مرموقة فهذا يعنى أن هناك أملا كبيرا في أن يتقلد البقية مثل هذه المواقع وهذا يولد الحماس في نفوس منسوبي الجامعات، ويوقد لهيب المنافسة، ويربط الموارد البشرية ببعضهم، ويؤلف بين قلوبهم.
ولكن عندما يحدث العكس ويتم استقطاب المستشارين من خارج الجامعات ينتج عنه غيرة في الداخل خصوصا من أولئك الذين يرون في أنفسهم الكفاية ولو لم يظهر ذلك في أقوالهم ولم يتبين هذا في سلوكياتهم إلا أنهم يضمرون ذلك في قلوبهم فيقل استعدادهم في التعاون مع هذا القادم من خارج جامعتهم، ويرون عملا كهذا يهدد مستقبلهم مما يفقدهم الولاء للجامعة ويحاولون إفشال أي مهمة يتبناها لأن نجاحه دليل على فشلهم في إدارة منظمتهم. كما أن هذا القادم على البيئة التنظيمية من الشرق أو الغرب يحتاج إلى وقت طويل وجهد مضنٍ حتى يتعرف على عناصر الثقافة التنظيمية من قيم، وأعراف، وعادات تنظيمية لا يعرفها سوى من مكث سنوات وعمل عقود في الجامعات.
وعدم مقدرة الجامعات على تعيين قياديين أو مستشارين من الداخل يدل أنها فعلا تفتقد للخبرات وأنها لم تبذل الجهد اللازم لتنمية وتطوير قيادات مؤهلة وهي التي ينظر إليها على أنها بيت خبرة ومصدر ومخزون للموارد البشرية النفيسة للمنظمات الحكومية وغير الحكومية فكيف وهي عاجزة عن توفير مستلزماتها فتستعين بآخرين في إدارة مرافقها.
تعتني المنظمات الرائدة حول العالم بتطوير وتأهيل وانتقاء المواهب الإدارية التي نمت داخلها وهي تفعل ذلك من أجل المحافظة على جوهرها، وصقل مهارات منسوبيها، وكسب ولائهم. فخلال 700 عام من تاريخ القيادة والأعمال وجد أن 72 في المائة من المنظمات الناجعة حول العالم تولى قيادتها لأفراد أتوا من داخلها وإن حدث العكس لبعض المنظمات ــ تقدر بنحو أربع منظمات فقط ــــ فلظروف استثنائية ولفترات محدودة.
إن تعيين القيادات من الداخل يعتبر حلقة في سلسلة إدارية دائمة تمثل حلقات استمرار القيادة التي تبدأ ـــ كما بينها كولنز وبوراس في كتابهما البناء من أجل البقاء ــــ تبدأ بتطوير الإدارة والتخطيط للخلافة من خلال برامج إعداد القادة والذي ينتج عنه مرشحون أقوياء وقادة أكفاء من داخل المنظمة وهذا بدوره يؤدي إلى استمرار نهج القيادة الذي ارتضته المنظمة والذي يؤدي إلى الحلقة النهائية في هذه السلسلة وهي المحافظة على الجوهر وفي الوقت نفسه حفز التقدم. ويمكن لنقص أي عنصر من هذه العناصر أو قطع أي حلقة من حلقات هذه السلسلة أن يؤدي إلى توقف إداري يجبر المنظمة على البحث عن قيادات من خارجها مما يؤدي إلى إبعاد المنظمة عن قيمها الجوهرية ورسالتها الأبدية. ويمكن لمثل هذا التوقف أن يعوق التقدم بسبب اضطرابات في القمة وهذا ينتج عنه مرض يطلق عليه في مجال الأعمال مرض ثغرة القيادة وهنا تبحث المنظمات عن منقذ من خارجها بسبب ضعف برامج إعداد القادة في داخلها.
وحتى نثبت مصداقية ما نقول دعونا نأخذ تجارب المنظمات الرائدة حول العالم التي بقيت تتربع على عرش قطاعات الأعمال سنين عددا وبعضها تجاوز القرن بسنوات ومن ضمن أسباب بقائها متقدة، يافعة، شابة طوال تلك السنين هو تبني فكرة تعيين القيادات والمستشارين من الداخل والاستثمار في الموارد البشرية الداخلية وعدم الاستعانة بمواد بشرية قيادية أو استشارية من الخارج إلا في أضيق الحدود ولفترة محدودة ولأداء عمل محدود ولو تم ذلك سرا لكان أفضل.
فها هو جاك ولش المدير العام التنفيذي لـ "جنرال إليكتريك" يتحدث عن خطط الخلافة منذ 1991 أي قبل موعد تقاعده المنتظر بتسع سنوات فيقول "من الآن فصاعدا صار اختيار خليفتي أهم قرار سأتخذه وهذا يشغل جانبا كبيرا من تفكيري ولا يكاد يمر يوم دون أن أفكر في هذا الأمر". وقد أصبح جاك ولش مديرا عاما تنفيذيا لـ "جنرال إليكتريك" عام 1981، وبعد ذلك بعشر سنوات أصبحت سيرته منتشرة كإحدى أساطير القيادات فقد اعترف به على نطاق واسع كرائد للتغيير المؤسسي على حد قول مجلة "فورش". وقد أُتي به كمنقذ لـ "جنرال إليكتريك" التي لم يحدث فيها تغيير منذ اختراع الكهرباء، وقد يظن البعض أن "جاك ولش" أُتي به من خارج الشركة كدم جديد لتحريك هذا المارد المتعثر، ولكن هذا القائد الأسطوري كان يٌعد داخل "جنرال إليكتريك" وتربى في أحضانها.
وتعيين القيادات من الداخل ليست حكرا على "جنرال إليكتريك" بل هي فلسفلة المنظمات العملاقة حول العالم مثل "موتورولا" و"بروكتراند جامبل" وغيرها ولعلنا نناقش مثل هذه الاستراتيجيات في مناسبات قادمة إذا تيسر الأمر.
نتمنى من مديري الجامعات إعادة النظر في التعاقد مع آخرين من خارجها وتعليق أي قرار يسمح لهؤلاء الآتين من خارج بيئة الجامعة بتولي مواقع قيادية أو استشارية حتى لا يفقدوا الثقة من قبل معاونيهم، وما عليهم سوى الاهتمام قليلا باختيار وإعداد قادة من داخل الجامعات بالتدريب والتنمية الإدارية في الداخل والخارج، إضافة إلى التمكين، فالدورات والمحاضرات لن تؤتي أكلها ما لم يتمكن منسوبو الجامعات من مزاولة العمل القيادي من تخطيط وتنظيم واتخاذ القرارات وغيرها من الوظائف، وقد يرتكبون أخطاء أثناء تمكينهم إلا أن تنميتهم وقبولهم بأخطائهم أفضل بكثير من استقطاب أشخاص من خارج الجامعة.