تجربتي في التعلم عن بُعد

قبل سنتين التحقت بمعهد على الإنترنت يدرّس الفكر للشباب، أشاهد المحاضرات المسجلة في مقاطع فيديو ثم أقرأ أسئلة الاختبار وللإجابة عن الاختبار أحتاج إلى أن أكون قد شاهدت جميع المحاضرات المسجلة، إضافة إلى الرجوع إلى مراجع يشير إليها المحاضر. المثير في التجربة أن الأساتذة من كبار العلماء العرب من الخليج إلى المغرب العربي، أسماء لم أكن أعرفها من قبل، قامات ضخمة في المادة التي يدرسونها، بعضهم محاضرون في جامعات أوروبية. رغم أني لم ألتحق إلا بترم واحد فقط في ذلك المعهد ولم أتمكن من الإكمال إلا أن التجربة أثرتني كثيرا بعمق الطرح وعمق المراجع وعمق الفكر، انقطعت بعدها لأنها تحتاج إلى نوع من التفرغ. إلا أن ما تعلمته من خلالها، لا أبالغ إن قلت إنه يعدل سني دراستي المنتظمة ومحاولات قراءتي كلها! رغم أنها قد تبدو سهلة لأنها عبر الإنترنت لكنها تحتاج إلى جهد وبحث وتركيز، والأروع أنها تفتح آفاقا لم تُفتح لي من قبل!
وبعد الانقطاع جاءت تجربة رواق المنصة التعليمية التي أنشأها شابان سعوديان، توفر الدروس مجانا بجهد مطلوب من الطالب أقل من المعهد السابق، لكنها لا تقل عنه إثراء وعمقا، سجلت بمادة مبادئ تأسيسية لفهم طبيعة النص القرآني وكانت في دهشة العمق نفسها التي أبهرتني سابقا، شعرت بامتنان شديد لهذه الفرصة العلمية النادرة التي يمنحها لنا عالم الاتصال في الإنترنت، فيمّكنك من نهل العلم وأنت في مكانك لم تبرح وبعمق ومتعة تفوق بمراحل مقاعد الدراسة.
في المعهد الأول درست مقدمة في فقه الاختلاف عرفت من خلالها شيئا أساسيا من قواعد الفقه: "لا إنكار على خلاف" قاعدة لا نطبقها في حياتنا وتتسبب في شرخ كبير في أساليب تعاملنا، ومع هذا قد يستمر في عدم تطبيقها من يفترض بهم أن يكونوا أعلم الناس بها فيتأثر الجمهور من بعدهم ويغرق المجتمع في تناحر "حقيقي" بين دول وتناحر "لفظي" في دول أخرى سببه رفض الاختلاف، متخمين بالطائفية والتحزب تجاه تفاصيل كثيرة لا توحي أبدا بأن في فقهنا هذه القاعدة الأساسية، وعلى هذا تكون فجيعة غياب الاجتهاد الفقهي في تفاصيل أخرى كثيرة. ثم درست مقدمة في العلمانية وسياقها التاريخي الذي اضطرت إليه أوروبا بعدما أهلكتها الحروب الطائفية سنين طويلة فجعلها تلجأ إلى العلمانية حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن، تتعامل مع الناس بسواسية بغض النظر عن أديانهم وانتماءاتهم، محترمة حقوقهم، وبالتالي احترموا واجباتهم. واختلفت العلمانية بين دول أوروبا في درجتها وشدتها بحسب قسوة تجربتها في الحروب الطائفية، فالدول التي كانت طائفيتها أشد تشددت في علمانيتها لاحقا والدول التي كانت أخف طائفيا لا تتشدد في علمانيتها، وفرنسا مثال لأشد الدول معاناة من حروب الطائفية، لذا تعتبر أكثر الدول الأوروبية علمانية حتى تكاد أن تكون العلمانية لها دينا.
قبل أيام حضر شيخ وسطي معروف حفل عرس فإذا من الحضور جماعة من المتشددين المتنطعين حين رأوه ضجوا قائلين له إنا لنشهد الله على بغضك، فرد عليهم وأنا أشهد الله على حبّكم! ومضى.
الحب دائما ينتصر ويظل أعلى، ولأن أغرب شيء فعله الإنسان في حياته أن يكره ويقتل ويفسد في الأرض باسم الدين أو باسم الحب. لذا يظل الفيصل في كل التجارب الحمقاء المرتكبة هو (العلم) الذي يصنع العمق.
هل يعقل أن يكون ما تعلمته خلال الإنترنت باختياري ومصادفة يكون بالنسبة لي أثمن من كل ما تعلمته في سني الدراسة؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي