بقايا الماضي الجميل (1 من 2)
يعيبني النسيان العجيب للأسماء لدرجة محرجة. زملاء دراسة وعمل يقابلونني, أعرف أشكالهم لكن ذاكرتي البليدة تحرمني من استرجاع أسمائهم. تجدني أعصر ذهني, وقد يرى الواقف أمامي امتقاع لوني واختلاف حجم حدقة عيني التي تحاول أن تربط المعلومات بين العقل الحاضر والماضي.
قرأت كتاباً يتحدث عن براعة المخ في التعامل مع الأحداث العنيفة التي يمكن أن تدمر التوازن النفسي للإنسان. تصوروا أنه يمكن للشخص أن يشاهد حادثاً فظيعاً كجريمة قتل, ويعرف كل تفاصيلها, ويتمكن المخ من حجبها عن العقل الواعي بسبب الأثر الذي يمكن أن تسببه في نفسية المشاهد, وهم يسمونها الخدوش, لكنني أرى في جريمة القتل خرقاً للمخ والذاكرة وهدماً للكثير من المعتاد الذي يمكن أن يتحوَّل إلى حالة من العزلة وكراهية الحياة.
هذا من رحمة الله بخلقه, ولقد سمي الإنسان بذلك لأنه ينسى ولأن النسيان يمكن أن يكون سلبياً في حالات الأصدقاء والذكريات الجميلة, إلا أنه إيجابي عندما يحجب عنا الأحزان التي نعيشها في حياتنا كموت حبيب أو رؤية أمر جلل أو الوقوع ضحية أي من الجرائم والخيانات التي نشاهدها تحدث للآخرين. على أنني أتذكر في الغالب عددا محدودا من الشخصيات التي عشت معها أيام طفولتي المبكرة ولم يعودوا جزءاً من الصورة اليوم. لكن مجموعتي المفضلة بقيت في العقل الواعي لأنها حافظت على تواصل فريد.
كمال ابن المال والجاه في الحي. كان يتفاخر علينا بملابسه الراقية, وأسلوب حياته الفاره, وثقة أهله الكبيرة التي تمنحه راتباً شهرياً في مقابلنا مجموعة " الفقارى" الذين يحصلون على قطعة من الخبز بالتمر, أو أربعة قروش للمحظوظ منا.
كبر كمال وكبرنا واكتشفنا أن الدلال لا يصنع الرجال. تحول كمال إلى شخص يعتمد على أبيه في كل شيء, فلما توفي أبوه, اضطر كمال للعمل في مؤسسة أبيه التي لم يكن يعرف عنها سوى مخرجاتها "المال". اختار مجموعة من العمال ليرأسوا المؤسسة, فبدأ كل منهم يبحث عن مصلحته على حساب المؤسسة. كان همُّ كمال أن يرضي هؤلاء المديرين الذين ما إن تمكنوا من إدارة العمل, حتى بدأوا يهددون كمال وينتقدونه ويحطون من قدره أمام الموظفين. أمر دفع بكمال لقرار يمكن أن يدمر مستقبل المؤسسة عندما بحث عن مديرين جدد وطرد كل السابقين. تعيش مؤسسة كمال اليوم حالة من الترنح و"الطيحة والقومة" حسب الرأي المنتشر وأتمنى له أن يتجاوز محنته.
أذكر كذلك بخيت الذي كان نتيجة بيئة بدوية, لكنه درس في الخارج عندما ابتعث أبوه ليتدرب على معدات عسكرية. نما بخيت وهو يقلد حركات الغرب, ويتفاخر علينا بكلمات لم نكن نفقه منها شيئاً. تخرج وتوجه للجامعة، لكنه تخصص في علم الاجتماع. تخصص لا مكان له عند العرب الذين لا يعترفون إلا بالهندسة والطب. حاول أن يحصل على بعثة ليؤكد تفوقه في اللغة والإتيكيت على جماعتنا التي تجاوزته وبدأت تنظره في الوراء وهو يحاول أن يلحق بالركب, لكن دون فائدة.
لا بد أن أذكر هنا أن بخيت كان ضحية الاختيار غير العادل للبعثات. فهو لا يملك الاسم أو المال اللذين يمنحانه ميزة في المنافسة. هو لا يزال مكانه يعمل مع زميلنا سالم الذي منحه وظيفة جيدة في شركته.
عاش صديقي قاسم في فقر شديد. أسماه أبوه تيمناً بشاعر عربي, لكنه تحول إلى أسوأ كابوس. كان قاسم يتعارك مع كل من في الحي. كانت الشكاوى تنهال على الأب الذي لم يسلم من أذى الولد. لكنه استمر يمتدحه ويذكره بماضي الاسم الذي يحمله. كل هذا لم يؤثر في قاسم وإنما حوله إلى مجنون يختلق المشاكل مع كل شخص. وصلت الحال بأبي قاسم أن يحضر الولد إلى المدرسة وهو في الأصفاد, ويستلمه ليعيد الأصفاد في أقدامه بعد المدرسة.
تحول قاسم فجأة - وسبحان مغير الأحوال - إلى رجل يحاول أن يتعامل مع علية القوم. كنا نراقبه ونحن في الجامعة يذهب إلى مكتب العميد, ثم مكتب المدير, لدرجة أننا اختلقنا الكثير من القصص الخيالية عن الخدمات التي يقدمها قاسم للمسؤولين ليحصل على هذه الحظوة والاهتمام. كنا بالطبع نكذب لأن قاسم أصبح أكثر شجاعة منا نتيجة الأصفاد التي قيدته في صغره.
تعامل قاسم مع الكبار بشكل جعلنا نحسده, كنا نشاهده يهمس في أذن المدير عند باب سيارته, ثم أصبح يتعامل مع رئيس البلدية ومدير التربية والتعليم, ثم فاجأنا عندما دخل إلى الحفل الختامي للجامعة مع حاشية الوزير, أظن أن تلك المناسبة كانت قاصمة الظهر بالنسبة له. أصابته "عين ما صلت عالنبي", تكلم بعد الحفل مع أحد مندوبي الصحف وقال إن الوزير كان سعيداً بما شاهده, وهو لم يكن مخولاً بحديث كهذا. استدعاه الوزير وطرده من مكتبه وعنفه بكلام سمع عنه البعيد قبل القريب. وكانت نهاية أسطورة قصيرة الأجل اسمها "قاسم".