مَنْ لحقوق الأيتام .. بين مؤسسة التقاعد والبنك وحتى المحاكم؟
لم أعد أحصي عدد المرات التي قابلت فيها أشخاصا يتحدثون عن معاناتهم في قضية صرف مستحقات الورثة في الراتب التقاعدي، قضية متشابكة، ومحيرة بعض الشيء، ولها أبعاد كثيرة، ومتفرعة، وهناك الكثير من التناقضات والاستفسارات التي تحتاج إلى وقفة صادقة، فمن المؤلم جدا أن نجد عائلة سعودية يسمع أفرادها عن تريليونات الميزانية، وفي هذه العائلة أطفال وطلاب مدارس وفي وسط شتاء بارد، ثم تتعرض إلى قطع جميع مستحقاتها عند مؤسسة التقاعد دون سابق إنذار، والسبب انتهاء مدة الوكالة الشرعية دون تجديد. لتبدأ رحلة معاناة حقيقية واستجداء الناس، بدءا من استجداء الوكيل بقبول التوكل مرة أخرى عن المستحقين ثم المحاكم ثم العودة مرة أخرى إلى مؤسسة التقاعد والبنك في رحلة تصحيح قد تتجاوز الشهرين إذا كانت العائلة محظوظة مع الوكيل، أما إذا كان الوكيل ممن يماطلهم فهناك معاناة لا حد لها، كل ذلك لأن المؤسسة والبنك لا يريدان حل مسألة الوكالات هذه. ولك أن تتخيل عزيزي القارئ، أسرة في هذا الشتاء دخلهم الوحيد هو هذا المستحق، ثم يتوقف فجأة، وفيها أطفال منهم المريض ومنهم من يحتاج إلى عناية خاصة، لك أن تتخيل الليل عليهم إذا جن وليس هناك ما يأكلونه أو يطعمون به الأطفال، ولمدة لن تقل عن شهرين بأي حال، لا أمل لهم سوى استجداء الناس قريبهم وبعيدهم، ومنهم من يعطيهم على وعد عدم التكرار، ومنهم من يعطيهم ويتجهمهم، ومنهم من ينهرهم على أساس يهدرون مستحقاتهم التي قد لا تتجاوز ثلاثة آلاف ريال شهريا، رحلة ألم تبدأ من فاجعة عدم صرف المستحق لتمتد في طريق استجداء الناس لتنتهي في بحر من الديون، وحتى إذا تمت إعادة صرف المستحق بعد معاناة جاء تسديدا للديون، وتضطر العائلة إلى صرف الراتب في سداد الديون، والاستمرار في الاقتراض لسد الحاجات الراهنة، بحر من القروض الصغيرة، قرض فوقه قرض كظلمات بعضها فوق بعض، والذنب ''وكالة'' لم يتم تجديدها في حينه.
ما المشكلة بالضبط؟ هي أنه لا بد أن يتم إيداع مستحقات الورثة عند مؤسسة التقاعد في حساب شخص واحد فقط، لكن الراتب المستحق في النظام قد يخص أطرافا متعددة، فهو يقسم على أساس أن يتم دفع 100 في المائة من الراتب التقاعدي للورثة إذا زاد عددهم على ثلاثة أشخاص، و75 في المائة إذا كان عددهم اثنين، و50 في المائة إذا كان المستحق للراتب شخصا واحدا فقط. لا مشكلة مع الشخص الواحد؛ لأنه يمكن إيداع المستحق في حسابه مباشرة دون الحاجة إلى وسيط، لكن المشكلة إذا تعدد الأشخاص فلا بد من أن يقوم جميع المستحقين بتوكيل صاحب الحساب لتسلم مستحقاتهم، وهذه الوكالة يجب أن تكون شرعية من المحكمة، وهنا تبدأ المشكلة وخاصة إذا لم يكن الوكيل قريبا لأفراد الأسرة من الدرجة الأولى، فالوكيل قد لا يكون متاحا دائما لإنجاز معاملات الأسرة وهم معتمدون عليه تماما، وقد لا يكون بعضهم منصفا دائما. وبرغم أن المحكمة تؤكد في الوكالة أنها غير محددة بتاريخ ولا منتهية بتوقيت صلاحية، فهي سارية المفعول صحيحة ما لم يقم أحد الطرفين بإلغائها شرعا، إلا أن مؤسسة التقاعد تصر على أن تحددها بخمس سنوات فقط، حتى لو نصت الوكالة الشرعية في محكمة شرعية على يد قضاة شرعيين بأنها غير محددة بمدة زمنية. وإذا كان هذا هو حكم الشرع والنظام الساري في الوكالات بشكل عام، التي تتعامل بعضها مع حقوق بملايين الريالات، فلماذا تصر مؤسسة التقاعد على تحديد مدة الوكالة من لدنها، وتجبر الأسرة إلى استجداء الوكيل والبحث عنه مرة أخرى، حتى يعيد لهم وجودهم وكيانهم القانوني وحقهم في مستحقات مورثهم؟ من أين جاء هذا النص؟ وما مرجعه الشرعي والنظامي والأخلاقي والإجرائي؟ لماذا تصح الوكالة في ملايين الريالات بل في إدارة شركات عملاقة ولسنوات لا حد لها، بينما لا تصح في راتب تقاعدي قد لا يتجاوز ثلاثة آلاف ريال؟ أرفع هذا السؤال إلى مؤسسة التقاعد لعلها تجيب ليس بما يقنعني بل بما يقنع الآلاف من الأسر والأفراد الذين تتوقف مستحقاتهم فجأة، ودون سابق إنذار ولمدة تصل إلى شهرين كاملين.
لماذا يتوقف الراتب فجأة بسبب تجديد الوكالة الشرعية؟ هذا هو سؤالي الثاني، لماذا ''فجأة''؟ لماذا لا يتم إرسال خطاب إنذار أو رسالة جوال تحذر العائلة من مصيرها المحتوم، لعلها تستعد لمواجهته؟ لماذا لا يتم إرسال رسالة بأي طريقة تبين للأسرة أن عليها تجديد الوكالة وقبل مدة كافية قبل الموعد المقرر لتتوقف عن السداد؟ في كل مكان وكل جهة يتم إرسال إشعار إنذار، في فواتير الاتصالات، في الكهرباء، في المياه، حتى في المخالفات، في الملحقيات والبعثات، إلا في مستحقات الورثة عند مؤسسة التقاعد. لماذا لا يتم ذلك وقد أصرت المؤسسة على تحديد مدة الوكالة ''دون سند شرعي''؟ لم لا تقوم بتطوير طريقة لإنذار المستحقين ومنحهم فرصة؟ ثم لماذا لا تتحمل المؤسسة نتائج هذا التأخير كأن تعوض المتضررين من ذلك وهي التي تستخدم أموال المستفيدين في بناء الأبراج والأسواق، وتضارب بها هنا وهناك؟ لماذا على المواطن أن يدفع ثمنا باهظا وتتم مضاعفة العقوبات إذا تأخر عن سداد مستحق أو فاتورة أو لم يقم بإجراء معين في وقته اللازم، بينما لا أحد يعوضه إذا تأخرت المؤسسات عن سداد مستحقاته؟ لماذا لا تعوض الأسر عن الألم النفسي والمادي الذي يتعرضون له لمجرد أن مؤسسات الدولة لا تريد تطوير إجراءاتها لمنح المستحقين حقوقهم في وقتها؟