هل اخترع الذرة؟

احتفل رفيق فصل في الثانوية بحصوله على درجة البكالوريوس في تخصص إدارة الأعمال وهو في سن الثلاثين. أقام وليمة عشاء كبيرة دعا إليها القريب والبعيد. بعد انتهاء العشاء دعاني صديق قديم يعمل استشاريا في مستشفى عام، أن يقلني إلى منزلي. سعدت بدعوته؛ لأنها ستمنحني حوارا خاصًا معه. فور أن ركبت سيارته وقبل حتى أن أغلق الباب فتح هذا الصديق باب الانتقادات على مضيفنا. اتهمه بالمبالغة في الاحتفال، وقال حرفيًا: ''من حضر هذا الحفل سيعتقد أن صاحبنا اخترع الذرة''. وتساءل:''لا أعلم ماذا كان سيفعل لو أنه حصل على شهادة الطب، هل سيقيم احتفالا كل يوم طوال عام كامل؟''.
أثار هذا الانتقاد حفيظتي وتحولت اللحظات، التي كنت أحسب أنها ستكون ماتعة إلى أخرى ممضة.
أشعر بضيق شديد من أسلوب التقليل من أفراح الناس واهتماماتهم. مع الأسف أننا نتعامل مع الآخرين بمعيار واحد غير مدركين حجم التباين والاختلاف بين بعضنا بعضا. غير عابئين بالفروقات الشخصية والذائقة والإمكانات والفرص والتنشئة والظروف. نعتقد أننا نشبه بعضنا أو المفترض أن نكون كذلك. لكن الحقيقة خلاف ذلك تماما. فما تراه عظيما ومثيرا قد يراه غيرك تافها وباهتا. ما تشعر أنه سهل هين قد يكون صعبا عسيرا على آخرين.
فمثلا صاحبي، الذي تخرج متأخرا بمقاييس البعض، وهو في عقده الثالث، مر بظروف صعبة. رافق أمه، رحمها الله، في رحلات علاجية طويلة، أبعدته عن الدراسة لسنوات. بعد أن فقدها فقد الأمل في كل شيء. لكن منّ الله - سبحانه وتعالى - عليه بالتوفيق والسداد واستطاع أن يكمل ما بدأه وأن ينهي رحلته الجامعية بنجاح.
هكذا نحن. نشاهد جزءا من الصورة ونحكم على الصورة بأكملها. يحتفل أحدنا ونقلل من قيمة احتفاله. تستلب جوارحه هواية فنسخر منه.
علينا أن نتمهل ونتروى قبل أن نطلق أحكامنا على من يحتفل بحماسة. فهي أو هو قطعا يحتفل بشيء وصل إليه بمشقة، وسط ظروف وعقبات ومطبات ربما لم تعترض طريقنا. فلو مررنا بمثلها لما تعجبنا أو قللنا من صيغة الاحتفال أو حجم السعادة، التي شهدناها وشاهدناها.
عندما أرى صورة شخص نشر خبر إنجابه طفلا في كل وسائل الإعلام بشراهة أدرك تماما أن هذا المولود جاء بعد ترقب وطول انتظار.
حينما أشاهد فرحة هستيرية للاعب أو مدرب بهدف أعلم أنه جاء في وقت عصيب بعد طول انتظار.
إذا شاهدت صورة شخص بعباءة التخرج في كل مكان أدرك أن هذا الطالب كافح طويلا حتى نال هذه الدرجة.
هذه المشاهد ينبغي ألا تدعونا للسخرية منهم، بل التعاطف معهم، لأنهم ثابروا وواصلوا رحلتهم بأقدام حافية، لكن بصدور عامرة بالإصرار.
محزن أن نتهكم على القاصي والداني بعبارتنا الشهيرة ''من يشاهده يقول إنه مخترع الذرة''. المجتمعات التي لا تملك ذرة إنسانية تنتشر فيها سرادق الانتحاب والعزاء وتنحسر فيها مظاهر الاحتفال والاحتفاء.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي