Author

الكراهية

|
في منتصف تسعينيات القرن المنصرم، يوم كانت الجزائر على وشك الانزلاق في حرب أهلية شاملة، سئل الشيخ محفوظ نحناح، رئيس حركة المجتمع الإسلامي الجزائرية عن الحل الذي يقترحه للنزاع الداخلي، فأجاب ببساطة إن الحل هو الآية المباركة "كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ". من يحمل سلاحا فليلقه جانبا وليتجه إلى الله بقلبه، أيا كانت النتيجة. يومذاك، بدا هذا المنطق مغاليا في التبسيط. بل لقد وصفه أحد الزعماء السياسيين بالسذاجة والفشل في استيعاب تعقيدات الوضع الجزائري. لكن الأيام مرت، وتوصل الجميع، الحكومة والمعارضة، إلى أن المخرج الوحيد المتاح من الأزمة المستفحلة، هو الطريق الذي اقترحه نحناح. استعادت الجزائر سلمها الأهلي، ثم استعادت الدولة من يد العسكريين، ليس لأن الجيش هزم المعارضة المسلحة أو العكس، بل لأن شرائح كثيرة في الطرفين قررت أن تضع السلاح، حتى لو وصفت بأنها جبانة أو انهزامية. كرر هذه الفكرة ديزموند توتو، أسقف جنوب إفريقيا، الحائز على جائزة نوبل للسلام. سأله صحافي عن نصيحة يوجهها لمواطنيه، ولا سيما المناضلين وضحايا التمييز العنصري. فأخبره بأن وصيته الوحيدة هي نسيان التاريخ. في أوقات لاحقة سمعت الأسقف يتحدث ساخرا عن تجربة الاستعمار الأوروبي في إفريقيا. لكنه كان -في كل مرة- يؤكد أن هذا التاريخ مجرد رواية نعود إليها كي نتسلى أو نسخر، أو ربما كي نأخذ درسا في قدرة الإنسان على الانزلاق في الآثام. لكننا -يقول توتو- نريد أن نتحرر من هذا التاريخ، بكل ما يحويه من ألم وكراهية. نريد تركه وراء ظهورنا، كي لا يشغلنا عن بناء مستقبل مختلف. كلام الأسقف الحكيم مثل كلام المرحوم نحناح، ينطلق من تفسير بسيط لعجز الناس عن التسالم والتحرر من الكراهية، خلاصته: أن الإنسان قد ينزلق في الغضب أو التصنيف السلبي للآخرين، لأي سبب. لكنه بمرور الوقت، يصبح أسيرا لدوامة الكراهية والكراهية المضادة، مثل مدمن المخدرات الذي يبدأ بدوافع بسيطة، لكنه يعجز لاحقا عن الخروج من دوامتها. لا سبيل للتحرر من دوامة الكراهية غير الإرادة الفردية. وتحديدا إرادة التحرر من تاريخ الكراهية، ومن الذاكرة المشحونة بقصص الكراهية، ومن ناشري الكراهية وتجارها ودكاكينها. لم يعد الأمر خيارا أو رفاهية. الدماء والدمار والدموع التي تقتحم عيوننا وآذاننا كل ساعة، على امتداد العالم العربي والإسلامي، نذير بأن مستقبلنا قد يذهب وقودا لنيران حروب تؤججها كراهية انفلتت من رفوف التاريخ واستوطنت نفوسنا وحياتنا. لن ينتصر أحد في معركة الكراهية. ولو تغلب يوما فسوف يحمل على كتفيه جبالا من الخسائر والإثم والألم، تجعل الهزيمة أكثر شرفا وأحسن حالا.
إنشرها