منظمة التجارة .. أزمة منذ التأسيس
الحزمة التي اتفقت عليها الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية في اجتماعها الأخير في إندونيسيا، ستدرّ ما يقرب من ألف مليار دولار. وستُوجد ملايين الوظائف، وتطرح أشكالاً تشغيلية ''بعضها جديد''. والاتفاق الذي تم في بالي الإندونيسية في حد ذاته يعتبر تاريخياً. فلا أحد كان يتوقع أن تتوصل دول المنظمة إلى اتفاق منذ تأسيسها في 1995، وبالتالي فإن أي اتفاق هو انتصار، وبمعنى أصح ''إنه بمنزلة حبل إنقاذ للمنظمة بجولتيها في الأوروجواي والدوحة''. حزمة مهمة بلا شك، ولكن إلى أي مدى؟ هذا هو السؤال الذي لم يستطع أي من المتفاوضين تقديم إجابة عنه، أو رد يمكن أن يكون مقنعاً، ولو بحدود ضيقة. الحقيقة الواضحة للجميع، أن منظمة التجارة العالمية في أزمة، وهي في الواقع في أزمة منذ التأسيس، والاعتبارات كثيرة، في مقدمتها حماية المصالح الوطنية للدول الأعضاء التي أرضت السير في طريق التفاوض، الذي اتسم طوال السنوات الماضية بالجدل.
هل وصلت منظمة التجارة العالمية إلى مفترق طرق؟ إنه سؤال بلا معنى، لأنها لم تتحرك في الواقع من هذا المفترق أصلاً. ولأن الجدل حل مكان التفاوض، بقيت المنظمة على المفترق، ولا توجد بالأفق أي إشارات ''حتى بعد اتفاق بالي'' تدل على أنها ستنتقل إلى المربع الثاني. فهي لا تزال تائهة في المربع الأول. والاتفاق ''التاريخي'' الذي تم في بالي، كان محدوداً إلى درجة أنه لا يشكل أكثر من 10 في المائة من مجمل برنامج الإصلاحات الذي يفترض أنه المحور الرئيس للمنظمة برمتها. وإذا ما أسقطنا الفترة الممتدة من تأسيس المنظمة إلى اتفاق بالي، تكون النتيجة أن 10 في المائة فقط تحققت من أهداف المنظمة على مدى 30 عاماً تقريباً! ووفق ذلك، لن يكون غريباً أن تتحقق 10 في المائة أخرى بعد ربع قرن، واستناداً إليه، لن تحقق المنظمة أهدافها كاملة، قبل مرور 250 عاماً على تأسيسها!
لا تستطيع منظمة التجارة العالمية تحميل فشلها ومشكلاتها كاملة على الأزمة الاقتصادية العالمية. فالعقبات الكبرى كانت موجودة قبل الأزمة بسنوات. وأكبر هذه العقبات هي تلك المرتبطة بالسياسات الحمائية أو استراتيجيات الدعم الذي توفر الحكومات لقطاعاتها الوطنية المختلفة، بما في ذلك دعم الصادرات والرسوم الجمركية المتزايدة، إلى جانب، طبعاً، الإجراءات البيروقراطية التي تقتل أي حراك اقتصادي آت من الخارج. لقد قلل الاتفاق الأخير من الآثار السلبية لهذه الاستراتيجيات، لكن المنظمة الفرِحة جداً بهذا الاتفاق، ''نسيت'' وضع الأدوات اللازمة للتنفيذ، وتركت الأمور لمفاوضات جديدة أو لما ينتج عن اتصالات ثنائية. هذا لا يعني أن الدول التي ألزمت نفسها بالاتفاق المشار إليه، ستقوم بالقفز عنه، ولكن مثل هذه الاتفاقات تكون عادة فضفاضة. هي جيدة ببنودها ولكنها ليست كذلك في عملية التطبيق. وعلى هذا الأساس، لا يمكن اعتبار ما توصلت إليه المنظمة، إلا محاولة جديدة شبه ناجحة، لأنها خاضعة لمعايير الجودة في الأداء، التي تستغرق وقتاً ليس قصيراً لتظهر على الساحة.
يبالغ أولئك الذين يعتقدون أن دوراً جديداً بدأ يظهر لمنظمة التجارة العالمية على الساحة العالمية. فمثل هذه الأدوار باتت ''على الأقل في هذا الزمن'' حكراً على التجمعات الإقليمية أكثر من تلك العالمية. ولعل أفضل صيغة لتوافق دولي وتفاوض ناجح ونتائج مقبولة، أن يكون التفاهم بين هذه المجموعات، وليس بين الدول، لأن للمجموعات الإقليمية أيضاً تشريعاتها ومحاذيرها وقيودها، ما يجعلها مؤهلة للتوصل إلى اتفاقات دولية شاملة وقابلة للتطبيق. دون أن ننسى أن المصالح الوطنية لا تزال تضرب بصور مختلفة حتى ضمن التجمعات الإقليمية ذاتها.