كيف تتصرف الجماهير؟
يعتبر علم النفس الاجتماعي علما مزيجا بين علم الاجتماع الذي يتناول المجتمع وكذلك علم النفس الذي يتناول سيكولوجية الأفراد، وقد ظهر هذا العلم، أي: علم النفس الاجتماعي بهذا المصطلح في أواخر القرن التاسع عشر، ولكن لم ينضج بشكل لافت إلا في القرن العشرين، ويعتبر الطبيب الفرنسي جوستاف لوبون أحد أبرز رواده فهو عالم اجتماع وعني بالحضارة الشرقية، ومن أبرز كتبه حضارة العرب وكتابه الشهير سيكولوجية الجماهير، الذي سأتناول مقتطفات منه في مقالات قادمة بإذن الله.
إن ظاهرة الجماهير باتت أمرا واقعيا سواء في واقع الإعلام المرئي أو واقع جميع وسائل الاتصال سواء التواصل الاجتماعي أو في الأجهزة الذكية في الرسائل الفردية والجماعية، والفكرة الأساسية لمعنى الجمهور: هو انصهار أفراده في روح واحدة وعاطفة مشتركة تقضي على التمايزات الشخصية وتخفض من مستوى الملكات العقلية، وكأن هناك مركبا كيماويا ناتجا عن صهر عدة عناصر مختلفة وجعله في مركب واحد.
إن الجماهير غير ميالة كثيرا للتأمل، وغير مؤهلة للمحاكمة العقلية، ولكنها مؤهلة جدا للانخراط في الممارسة والعمل.
وبنظرة عاجلة في التأريخ نجد أن العظماء الذين تركوا بصمات في التغيير. في الواقع كلهم كانوا علماء نفس على غير وعي منهم. وكانوا يعرفون روح الجماهير بشكل فطري.
إن التغيرات الكبرى التي تسبق عادة تبديل الحضارات وتغير الدول تبدو للوهلة الأولى وكأنها محسومة من قبل تحولات سياسية ضخمة، نذكر من بينها تفكك الاتحاد السوفياتي الاشتراكي، أو أحداث الربيع العربي وما آلت إليه الأمور، ولكن الدراسة المتفحصة عن كثب لهذه الأحداث تكشف لنا غالبا أن السبب الحقيقي الذي يكمن وراء هذه الأسباب الظاهرية، هو التغير العميق الذي يصيب أفكار الشعوب، ولذلك قد تتغير الأمور إلى الأفضل أو إلى الأسوأ؛ لأن هدف الجماهير لحظتها فقط التغيير وبمجرد أن يجتمعوا على هيئة جمهور فإن الجاهل والعالم يصبحان عاجزين عن الملاحظة والنظر إلى ما بعد التغيير، وقد يحدث غير ذلك أحياناً مع التغيير الذي يطال العقائد العامة، فهذه مستثناة من التحليل الحالي؛ لأنها من وحي السماء وليست من تجارب البشر.
وبالنظر إلى كتاب المفكر جوستاف نجد أنه لخص نفسية الجماهير بخمس تحليلات رئيسة لنفسية الجماهير في الأعم الغالب وهي:
الأول: أن الجمهور النفسي يختلف عن التجمع العادي أو العفوي للبشر في ساحة عامة مثلا، أو على موقف عن التجمع العادي أو العفوي للبشر في ساحة عامة مثلا، أو على موقف باص، فالجمهور النفسي يمتلك وحدة ذهنية على عكس هذه التجمعات غير المقصودة.
الثاني: أن الفرد يتحرك بشكل واع ومقصود، أما الجمهور فيتحرك بشكل لا واع، ذلك أن الوعي فردي تحديدا، أما اللاوعي فهو جماعي.
الثالث: أن الجماهير محافظة بطبيعتها ذات نفس قصير على الرغم من حرصها على الثورة الوقتية فهي تعود في نهاية المطاف ما كانت قد قلبته أو دمرته، ذلك أن الماضي أقوى من الحاضر بكثير، تماما كأي شخص منوم مغناطيسيا، ما لم يكن هناك شحن عاطفي مستمر يجعل الجمهور يستمرون في رغبة التغيير.
الرابع: إن الجماهير، أياً تكن ثقافتها أو عقيدتها أو مكانتها الاجتماعية، في حاجة لأن تخضع لقيادة محرك، وهو لا يقنعها بالمحاجات العقلانية والمنطقية، وإنما يفرض نفسه عليها بواسطة القوة، كما أنه يجذبها ويسحرها بواسطة هيبته الشخصية تماما كما يفعل الطبيب الذي ينوم المريض مغناطيسيا.
الخامس: إن الدعاية الجماهيرية لأي أمر ذات أساس عاطفي لا عقلاني يتمثل بالعقائد الإيمانية الجماعية، ولها أداة للعمل تتمثل بالتحريض من قريب أو بعيد ''أي بالعدوى''، ومعظم أعمالنا ناتجة عن العقائد الإيمانية، أما التفكير النقدي وانعدام المشاعر اللاهبة، فيشكلان عقبتين في وجه الانخراط والممارسة، ويمكن تجاوزها عن طريق التحريض والدعاية، ولهذا السبب ينبغي أن تستخدم الدعاية لغة الصور الإيحائية والمجازية، أو لغة الشعارات البسيطة والقاطعة التي تفرض نفسها فرضا دون مناقشة.
ونخلص من كل تحليلات لوبون إلى القبول بأن هناك نمطين من الفكر فقط: الأول يستخدم الفكرة المفهومية، والثاني يستخدم الفكرة المجازية أو الصورية، فالأول يعتمد على قوانين العقل والبرهان والاحتجاج المنطقي، وأما الثاني فيعتمد على قوانين الذاكرة والخيال والتحريض.
وأكبر خطأ يرتكبه القائد السياسي هو أن يحاول إقناع الجماهير بالوسائل العقلانية الموجهة إلى أذهان اﻷفراد المعزولين، فالجماهير لا تقتنع إلا بالصور الإيحائية والشعارات الحماسية والأوامر المفروضة.
وذكر جوستاف لوبون أن أهم العوامل البعيدة التي تغير عقلية الجماهير هي:
1- العرق. 2- التقاليد الموروثة من الماضي. 3- الزمن. 4- المؤسسات الاجتماعية. 5- التعليم والتربية.
وقام جوستاف بشرحها في كتابه سيكولوجية الجماهير. أما العوامل القريبة التي توثر في عقلية الجماهير فهي:
1- الشعارات وهي الكلمات والعبارات والرنانة خاصة الدينية منها.
2- الأوهام وهي تمثل العقائد والمعابد والتماثيل وغالباً هي موروث ديني من الماضي.
3- التجربة المكررة وغالباً هي التي تدمر الأوهام التي أصبحت غير فعّالة وخطرة أكثر مما ينبغي.
4- عدم استخدام التفكير العقلي بل الانسياق إلى العاطفة الجياشة والضرب على وترها.
إن فهم نفسية الجماهير تشرح لنا كثيراً من التصرفات التي نلاحظها في المجتمعات خاصة مع تقارب التواصل بين أفراده، فوسيلة مثل ''هاشتاق'' في ''تويتر'' ممكن أن تشحن الرأي العام تجاه أمر ما، وينساق الجمهور مع هذا الرأي، وربما في نهاية الأمر وجود مغالطات غابت عن الرأي العام، بسبب أن محركي الجماهير استطاعوا الوصول لروح الجماهير قبل وصول الحقيقة الواقعية.