إعصار الفلبين .. بُخل صيني مقابل كرم أمريكي
من الصعب القول إن مسارعة واشنطن بإرسال المساعدات الإنسانية إلى الفلبين المتضررة من تداعيات إعصار ''هايان'' (أو يولاندا كما يسميه الفلبينيون) المدمر هذا الشهر ليست لها أغراض سياسية تتمثل في تعزيز نفوذها في هذا البلد الآسيوي الجريح. صحيح أن بخل الصين، التي تعتبر ثاني أقوى اقتصاد في العالم، تجسد فيما قدمته من مساعدات قليلة جدا مقارنة بما قدمته واشنطن، وأيضا مقارنة بما قدمته دول أخرى كان دافعها الوحيد تخفيف معاناة الشعب الفلبيني، مثل دولة الإمارات العربية التي تبرعت بـ 20 مليون دولار فور ورود أخبار الإعصار، والسعودية والكويت اللتين قدمت كل منهما عشرة ملايين دولار، ودولة قطر التي قدمت أكثر من 650 ألف دولار إضافة إلى مساعدات عينية عن طريق الهلال الأحمر القطري، إلا أن الصين حاولت الظهور بمظهر المتألمة لما حل بالفلبين دون أن تقدم سوى 100 ألف دولار، وهذا مبلغ رمزي قليل لا يسمن ولا يغني من جوع، في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة عبر حاملة الطائرات ''جورج واشنطن'' الضخمة، وطائراتها العملاقة من طراز ''بي – 52 '' ومئات من جنود المارينز تقوم بأعمال الإغاثة والإجلاء لملايين من الذين دمرت منازلهم في المناطق النائية، ناهيك عن مبلغ الـ 20 مليون دولار الذي خصصته لتوفير الغذاء والدواء والإسعافات للمنكوبين في أسوأ إعصار يضرب هذه البلاد في تاريخها الحديث.
ويعزي المراقبون قلة المساعدات الصينية، التي تهرب وزير الخارجية الصيني قين قانج من الحديث حولها، إلى التوتر السائد في العلاقات الصينية ــــ الفلبينية حول ملكية بعض الجزر في بحر الصين الجنوبي، ناهيك عن قيام مانيلا بتقديم شكوى ضد بكين لدى الأمم المتحدة، طالبة من الأخيرة رفع الموضوع للتحكيم الدولي، بعدما فشلت جهود الرئيس الفلبيني بنينو أكينو في التوصل مع قادة الصين إلى صيغة تُحل بها الأزمة عبر وساطة تقوم بها منظمة آسيان الجنوب شرق آسيوية. دعك من فشله في الحفاظ على خطوط تواصل مفتوحة معهم بعدما ألغت بكين دعوة رسمية له لحضور معرض التجارة العالمي. أما الدليل الذي يبرزه هؤلاء مصداقا لقولهم، هو أنه حينما كانت العلاقات الصينية ــــ الفلبينية ليست بهذه الدرجة من السوء في عام 2011 قامت بكين بتقديم مساعدات بقيمة مليون دولار للفلبين، لتخفيف معاناة من تضرروا من إعصار حدث في ذلك العام.
وهذه السياسات المتشددة ضد الصين، التي تحظى بتأييد شعبي في ظل تنامي النزعة القومية في الفلبين، يقودها وزير الخارجية ألبرت ديل روساريو الذي برز أخيرا كمؤازر صلب لسياسات واشنطن الآسيوية، شأنه في ذلك شأن نظرائه في اليابان وسنغافورة وغيرها من الدول الآسيوية الصغيرة والمتوسطة التي تخشى من تغول التنين الصيني، وكداعية إلى تبني مواقف حازمة ضد بكين عبر التعاون العسكري مع واشنطن وطوكيو.
مما لا شك فيه أن هذا البخل الصيني قد أصاب الفلبينيين - ومنهم من تعود جذوره إلى البر الصيني - بخيبة أمل شديدة، خصوصا أن بكين كانت كريمة إزاء دول أخرى شهدت كوارث طبيعية مشابهة مثل باكستان التي تلقت من الصين مساعدات بقيمة 1.5 مليون دولار بعد تعرضها لزلزال مدمر.
مما لا شك فيه أيضا أن المساعدات الأمريكية جعلت مانيلا أقرب إلى الترحيب بدور وسياسات إدارة أوباما الخاصة بتعزيز النفوذ الأمريكي في آسيا ومنطقة الباسفيكي لمواجهة تزايد النفوذ العسكري وغير العسكري للصين في المنطقة. تلك السياسات التي تسعى إلى تركيز أكثر من 60 في المائة من القوة البحرية الأمريكية وقوات المارينز في البحار الآسيوية بحلول عام 2020، بالتالي يتطلب تنفيذها تفاهمات واتفاقيات مع الفلبين وغيرها حول استخدام بعض القواعد والمنشآت العسكرية لأغراض التوقف والتموين وإعادة الانتشار.
يقال إن المأساة الإنسانية التي عاشها الفلبينيون من موت ودمار وجوع وإنهاك وتشرد وهدم للبنى التحتية وخسائر تجاوزت 14 مليار دولار أسهمت في تغيير نظرتهم إلى الأمريكيين، ليس لأن الأمريكيين سارعوا قبل غيرهم إلى نجدتهم فحسب، وإنما أيضا لأن الأمريكيين يمتلكون من الإمكانيات التي لا تمتلكها دول أخرى في حالات الإغاثة والنجدة، وهذا ما لمسته شعوب آسيوية أخرى مثل التايلانديين والسريلانكيين والإندونيسيين حينما اجتاح بلادهم إعصار تسونامي في كانون الأول (ديسمبر) من عام 2004، حيث وقفت الدولة المحورية في المنطقة (الصين) عاجزة عن مد يد العون بسبب تخلف إمكانياتها اللوجستية والعسكرية مقارنة بإمكانيات الولايات المتحدة.
من ناحية أخرى، يحتمل أن تكون للجهود الإغاثية الأمريكية في الفلبين تداعيات إيجابية أخرى مثل تخفيف معارضة بعض القوى والجماعات السياسية الفلبينية من تلك التي تصدرت المشهد قبل سنوات لإغلاق قاعدتي ''سوبيك'' و''كلارك'' الأمريكيتين فوق الأراضي الفلبينية تحت ذريعة أن واشنطن تستخدمهما في خلافاتها مع الصين من أجل مصالحها الخاصة دون النظر إلى مصلحة الفلبين وأمنها واستقرارها. هذه القوى نفسها يقال إنها اليوم تتبنى مواقف معاكسة، بدليل المظاهرات التي تخرج من وقت إلى آخر في مانيلا بتنظيم من منظمات المجتمع المدني لدعم الجيش الوطني في حمايته تراب الوطن ومياهه الإقليمية إزاء التحرشات الصينية، وتصوير الصين كدولة طامعة تعمد إلى لي ذراع جاراتها الصغرى.
وعليه فإن الرئيس الأمريكي باراك أوباما إذا ما قام بزيارته المؤجلة إلى الفلبين، التي كانت مقررة في الشهر الفائت، قبل حدوث الخلافات داخل الكونجرس الأمريكي حول الموازنة الفيدرالية، فسيجد الأرضية ممهدة له لعقد صفقات استراتيجية مع حكومة مانيلا من تلك التي كانت إلى وقت قريب تحتاج إلى جولات من التفاوض والمساومة، وربما لن يُواجه أوباما بالعتب الذي سببته سياساته المتخبطة والمترددة حيال دول أخرى كدول الشرق الأوسط، خصوصا إذا ما علمنا أن واشنطن تلعب دورا مساندا للحكومة الفلبينية في سياساتها الهادفة إلى مطاردة الجماعات الانفصالية والإرهابية في جنوب الفلبين، وتعزيز دور القوات الحكومية عبر تزويد الأخيرة بالأموال والأسلحة والخبراء، إضافة إلى تقديم المساعدات الإنسانية بمئات الملايين من الدولارات للسكان المدنيين من أولئك الذين جعلهم حظهم العاثر في مرمى نيران الأطراف المتقاتلة، ولا سيما في مدينة زامبوانغا الجنوبية.