تصغير الوحدات المحلية .. الاقتراب من المواطن
هناك الكثير من التغيرات الاقتصادية والثقافية والسياسة والتقنية السريعة التي تواجه الوطن وتستدعي التعرف عليها والاعتراف بها والعمل على استيعابها ضمن منظومة إصلاحية تستهدف إعادة التفكير في أسلوب عملية صنع القرار العام. وقد يكون من بين أهم تلك التغيرات توسع المناطق الحضرية مساحة وسكانا، وازدياد أعدادها وحجم التحديات التي تواجهها وتغير أنماط الاستهلاك وارتفاع سقف توقعات المواطنين، حتى غدت المدن تمثل ثقلا سياسيا واقتصاديا لا يمكن إغفاله أو التغافل عنه. لقد أدركت الحكومة هذه التغيرات فعمدت إلى التخفيف من المركزية من خلال إنشاء مجالس المناطق في عام 1992، وتبني نهج الخصخصة في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، كنمط من أنماط اللامركزية الاقتصادية بالاعتماد على آلية السوق في توفير السلع والخدمات. وتأكد هذا التوجه نحو اللامركزية في تفعيل المجالس البلدية عام 2004 وإجراء الانتخابات البلدية وقبلها تنظيم المجالس المحلية على مستوى المحافظات في عام 2000. وعلى الرغم من أن هذه التطورات كانت مشجعة وتوحي بالتوجه نحو اللامركزية، إلا أنها لم تمنح أدوارا وصلاحيات جوهرية، وظلت اسما من غير مسمى، تعطي انطباعاً خاطئاً في تبني اللامركزية؛ بينما هي شكلية لم تحقق المطلوب، وهو صناعة القرار المحلي. أسوأ ما في الأمر أنها جعلت المواطنين يفقدون الثقة بالهيئات المحلية والانتخابات البلدية ويتمسكون بالمركزية، لأن الهيئات المحلية فشلت في تلبية احتياجاتهم الحقيقية وحل مشكلاتهم المعيشية اليومية، وبهذا تكونت ثقافة اللامسؤولية واللامبالاة والاتكالية لدى أفراد المجتمع المحلي، وأدت إلى عدم مبادرتهم ومشاركتهم في الهم العام المحلي، وهو ما يقود إلى انحسار التنمية الاقتصادية والاجتماعية المحلية ويصعب من إدارة المجتمع؛ بل بدت تطفو على السطح الكثير من المشكلات كنتيجة حتمية لغياب الإدارة المحلية الشمولية بصلاحيات إدارية ومالية كافية لإدارة الشأن المحلي. على سبيل المثال توسع المدن وتضخمها دون خطط مستقبلية تضبط النمو الحضري الذي أصبح يتمدد في كل اتجاه حتى غدا من الصعوبة السيطرة على المدن الكبيرة، وعلى إفرازاتها السلبية من العشوائيات إلى الفقر والبطالة والتلوث، وارتفاع معدل الجريمة، وزيادة تكلفة تقديم الخدمات العامة والقائمة تطول. وهنا يجب أن نعي أن النمو الحضري وتوسع المدن أمر مخيف وخطير يهدد الأمن الوطني. هناك من ينظر إلى ضخامة المدينة برؤية مادية شكلية لا تخلو من المباهاة المزيفة في أنها تمنح شعورا من الفخر والفخامة والرقي ومؤشرا للتقدم والتطور! وهم في الوقت ذاته يغفلون عن الجوانب السلبية والخطرة التي تجلبها المدن الضخمة. ''لِـكُلِّ شَـيءٍ إِذا مـا تَمّ نُقصانُ''، وكما يقول المثل ''الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده''، وهذا ينطبق تماما على حال المدن التي تضخمت وانتفخت إلى حد لا يمكن السكوت عنه. الكثافة السكانية العالية تؤدي إلى التنوع والتباين في الآراء والثقافة والاحتكاك بين السكان ويتولد منه مشكلات أمنية وسياسية وثقافية قد نعجز عن احتوائها ومعالجتها؛ لأنها ستكون قد كبرت وتجذرت ''ولات حين مناص''.
إن تزايد حجم المدن أسهم في توسيع الفجوة بين المواطن وصانع القرار. فعلى سبيل المثال مدينتي الرياض وجدة أصبحتا كبيرتين من حيث المساحة وعدد السكان، ولا يمكن تصور أو حتى تخيل إدارتهما دون تقسيمهما إلى نطاقات مكانية كوحدات إدارية حسب التكوين السكاني والمكاني والثقافي. المدن السعودية الكبيرة أصبحت تفيض بعدد السكان وكان لا بد من تضييق نطاق الإشراف حتى يمكن السيطرة عليها وإدارتها بكفاءة وفاعلية. هل يعقل أن يكون هناك مجلس بلدي واحد لمدينة بحجم مدينة الرياض؟! وأن يكون عدد أعضائه مماثلا لمدن لا يبلغ عدد سكانها 20 في المائة من مجموع سكان مدينة الرياض؟! هل يصدق أن الرياض العاصمة التي يلامس عدد سكانها ستة ملايين نسمة ليس لديها محافظ؟! وهو ما ينسحب على جميع عواصم المناطق، وهذا عيب وخلل إداري كبير يجب التنبه إليه. إذ لا يمكن لأمير المنطقة الحاكم الإقليمي أن يدير المنطقة، وفي الوقت نفسه نطالبه بإدارة المدينة! وبالمثل لا يمكن مطالبة أمين المنطقة المسؤول عن الخدمات البلدية في المنطقة بأن يكون مسؤولاً عن الخدمات البلدية في المدينة. هناك حاجة ملحة إلى التمييز بين المسؤوليات والأدوار حسب النطاقات المكانية حيث يكون هناك تسلسل هرمي مكاني يحدد مسؤولية كل مستوى حسب نطاقه المكاني.
الحديث عن الإدارة المحلية وبالخصوص إدارة المدن يلزم ربطه بالظواهر السلبية التي تعانيها؛ حتى تتبين أهمية إعادة النظر في فهم الإدارة المحلية على أنها أكثر من مجرد مسألة رمزية وشكلية أو أنها من قبيل الترف السياسي والإداري الغاية الأساسية من الإدارة المحلية في واقع الأمر هو صناعة القرار المحلي، حيث يعكس تطلعات السكان والاستجابة لمتطلباتهم في الحاضر والمستقبل. ليس المهم أن يكون لدينا مجلس بلدي أو مجلس منطقة فحسب، ولكن مجالس نيابية فاعلة تعالج المشكلات وتضع الحلول التي يتطلع إليها السكان. وهذا لا يتأتى إلا بمنح تلك المجالس الصلاحيات الإدارية والمالية التي تتناسب مع حجم مسؤولياتها الكبيرة. هذه الصلاحيات يجب ربطها بنطاق الإشراف المكاني، وهذا يقتضي بالضرورة تحديد أحجام الوحدات المحلية، ومنحها ما يناسبها من سلطات.
الأمر الجوهري في كل ما ذكر أن هناك حاجة ملحة لتوزيع المسؤولية المكانية، وهذا يقتضي بالضرورة رسم هيكل للإدارة العامة مبني على خدمة مصالح المواطنين في وحدات محلية بمستويات مختلفة يحدد نطاقها المكاني اعتماداً على مدى تحقيقها المصلحة وتأثير الخدمة المقدمة. فما يكون تأثيرها داخل حدود الحي يترك أمر تقريرها لمركز الحي، والموضوعات التي تهم السكان على مستوى المدينة تكون من مسؤوليات المجلس البلدي، وهكذا على مستوى المحافظة من خلال المجلس المحلي وصولاً إلى مجلس المنطقة الذي يهتم برعاية القضايا والمصالح على مستوى المنطقة. هكذا فقط نستطيع أن نتحاشى تكرار الأخطاء في المستقبل ونبني الخبرات والقدرات المحلية؛ لنتمكن من عمل الأشياء بكفاءة وفاعلية، والأهم أن نستجيب لمتطلبات الموطنين.