الإرهاب يضرب قلب بكين النابض

لئن عُـرف عن المسؤولين الصينيين وصفهم للاضطرابات والتوترات التي تجري بين الفينة والأخرى في إقليم شينجيانج - منطقة شاسعة تتمتع بالحكم الذاتي وتقع على التخوم الغربية للصين - بالأعمال الإرهابية التي تقف وراءها أقلية الإيغور الانفصالية المنتمية إلى ''حركة تركستان الشرقية الإسلامية''، فإن هؤلاء المسؤولين غالبا ما يحاولون التعتيم على التوترات وأعمال الشغب التي تقع في أماكن أخرى من الصين. ولا تفسير لذلك سوى رغبة بكين في إعطاء صورة وردية للعالم عن أحوالها الأمنية كي لا تتوقف الاستثمارات الخارجية والسياحة الأجنبية عن القدوم.
غير أن ما حدث أخيرا في قلب العاصمة بكين، لم يكن من السهل على السلطات الصينية نفيه أو التعتيم عليه، فكان البيان الصادر من مكتب الأمن العام في بكين الذي جاء فيه أن القلب النابض للعاصمة تعرض ''لهجوم إرهابي عنيف أعد ونظم عن سابق تصور وتصميم''. وهذا لئن أثبت شيئا فهو فشل جهاز الأمن الصيني في الرصد والتنبؤ وإحباط الأنشطة الإرهابية قبل وقوعها، ثم قدرة الانفصاليين الإيغور على الوصول إلى قلب العاصمة النابض واستهداف مراكز حساسة وبالغة الأهمية فيه وفق تنظيم وإعداد دقيقين.
ذلك أن الهجوم الذي نفذه مقاتلون أو منتسبون إلى ''حركة تركستان الشرقية الإسلامية'' في الأسبوع ما قبل الماضي في بكين بواسطة سيارة رباعية الدفع مسجلة في منطقة شينجيانج وقع في مكان من أشهر الأماكن الصينية السياحية وأكثرها حساسية وجذبا للسياح، ونقصد به ساحة ''تيان إن مين'' ''بــُنيت في عام 1651 ومذاك تضاعفت مساحتها أكثر من أربع مرات''، التي تعتبر أكبر الميادين في العالم بمساحة تزيد على 440 ألف متر مربع، ناهيك عن أهميتها الثقافية والتاريخية المتمثلة في كونها مدخلا إلى ''المدينة المحرمة'' و''القصر الإمبراطوري الصيفي''، إضافة إلى شهرتها في التاريخ المعاصر كمكان سُجّي فيه جثمان المعلم ماو تسي تونج قبل عرضه محنطا داخل قاعة تقع على أطراف الساحة، وشهرتها بسبب المظاهرات التي حدثت فيها في عام 1976 في أعقاب موت رئيس الحكومة الأسبق تشو إن لاي، ثم ما حدث فيها في عام 1989 حينما قمع الجيش الأحمر الصيني بوحشية أنصار حركة المطالبة بالديمقراطية.
ومن ناحية أخرى، فإن الهجوم كان أقرب إلى الهجوم الانتحاري، حيث قامت به عائلة واحدة مكونة من شخص يدعى عثمان حسن ووالدته وزوجته، وجميعهم من مسلمي الإيغور، وإنْ قيل إن هناك آخرين أسهموا في التخطيط لهذا العمل الإرهابي وجهزوا منفذه بما يحتاج، بدليل أن الشرطة الصينية أعلنت عن اعتقال خمسة يُعتقد أن لهم صلة بمنفذ العملية، وعثورها على صفائح بنزين يعتقد أن عثمان حسن كان يحملها في داخل سيارته وأنه أشعلها كي تنفجر السيارة وقت الهجوم الذي أدى إلى مقتل سائحة فلبينية وسائح صيني من إقليم غوانغدونج، إضافة إلى إصابة أكثر من 40 شخصا بجراح مختلفة. أضف إلى ذلك أن الشرطة الصينية حينما فتشت منازل الموقوفين المشتبه بهم بالضلوع في الهجوم عثرت على لافتات تدعو إلى الجهاد وسيوف وسلاسل وغيرها من الأدلة التي تثبت وقوف ''حركة تركستان الشرقية الإسلامية'' وراء الحادثة الإرهابية، وإن لم تتبنها حتى الآن. وهذا يشير إلى أن الحركة، التي تمتعت طويلا بدعم قوي من نظام طالبان الأفغاني وتنظيم القاعدة الإرهابي، وتشرّب أعضاؤها الفكر المتشدد من تنقلاتهم ما بين وزيرستان في باكستان وتورا بورا في أفغانستان ومعسكرات حزب الله الآسيوي في طاجيكستان لم تمت أو تضعف كما أشيع، وإنما لا تزال قادرة على التسبب بصداع للقيادة الصينية على نحو الصداع الأمني الذي تسبب فيه أتباعها في تموز (يوليو) عام 2009 حينما اشتبكوا مع الصينيين المنتمين إلى إثنية الهان في مدينة أرومتشي عاصمة إقليم شينجيانج أو تركستان الشرقية كما كانت تسمى قبل دمجها مع الصين بعد الحرب العالمية الثانية. وكان أحد أسباب تلك الاصطدامات شعور الإيغور بالغبن والتمييز كنتيجة لسياسات بكين بتشجيع هجرة الهان البوذيين إلى شينجيانج مع منحهم الأفضلية في تولي الوظائف العامة وإدارة المشاريع الخاصة واقتناص الفرص الاقتصادية.
وإذا كان بعض المصادر قد أشار في هذا السياق إلى لجوء الانفصاليين الإيغور ''نحو تسعة ملايين نسمة يتحدثون التركية وتربطهم روابط قوية مع شعوب آسيا الوسطى من ذوي الثقافة التركمانية'' للتعاون مع جماعات إسلامية متطرفة من تلك التي تخوض حروبا جهادية في طاجيكستان وأوزبكستان وغيرهما من دول آسيا الوسطى الضعيفة، فإن مصادر أخرى لم تستبعد مساعدة الولايات المتحدة لهؤلاء طالما أن عملياتهم تقلق مضاجع الصين وتستنزف جهودها، وبالتالي تجعلها أقل خطورة على المصالح الأمريكية المزعومة في جنوب وشمال شرقي آسيا.
صحيح أن الولايات المتحدة وضعت ''حركة تركستان الشرقية الإسلامية'' على قائمة المنظمات الإرهابية في أعقاب هجمات 11 من أيلول (سبتمبر)، إلا أن الصحيح أيضا هو قيامها لاحقا برفع اسم الحركة بحجة أنه ثبت لديها عدم وجود شكل تنظيمي لها، فخالفت واشنطون بذلك موقف الأمم المتحدة والصين وطائفة من الدول الآسيوية التي ما زالت تنظر إلى الحركة كجماعة إرهابية. إلى ذلك قامت الولايات المتحدة قبل عدة سنوات بحملة دعائية وإعلامية وحقوقية ضخمة من أجل الضغط على السلطات الصينية للإفراج عن سيدة الأعمال وزعيمة المجلس العالمي للإيغور ''ربيعة قدير'' من السجن الذي دخلته في عام 1999 بتهمة تهديد الأمن القومي، وحينما تم لواشنطون ذلك قبيل زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق كونداليزا رايس لبكين في عام 2005 في صفقة قيل إنها تضمنت إطلاق سراح قدير مقابل وعد من الأمريكيين بإسقاط قرار ضد الصين في مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، منحت واشنطن قدير حق الإقامة في أراضيها، بل وسمحت لها بممارسة الأنشطة المضادة للصين من على الأرض الأمريكية، وراحت وسائل الإعلام الأمريكية تصفها بـ ''أونج سان سوتشي الصين'' من باب تشبيهها بزعيمة الحركة المطالبة بالديمقراطية في بورما، على الرغم من الفرق الشاسع ما بين السيدتين لجهة التحصيل العلمي، والخلفية الثقافية، والإرث السياسي، وسنوات النضال والمعاناة، وأساليب الحراك المبنية على النهج اللاعنفي على الطريقة الغاندية.
ومن هنا لم يكن غريبا أن نسمع المتحدثة الرسمية باسم الخارجية الأمريكية جين بساكي، في تعليقها على الحدث، تتجنب وصفه بالعمل الإرهابي، وتؤكد مجددا دعم بلادها لحقوق مسلمي تركستان الشرقية الذين - بحسب حكومتها - يعانون التمييز الديني والتضييق المعيشي.
وفي عمل يبدو كما لو كان ردا على هذا الموقف الأمريكي ومواقف بعض الجماعات الحقوقية الغربية التي راحت تعرب عن قلقها على الإيغوريين الصينيين والأوضاع في إقليم شينجيانج، تواردت أنباء عن قيام الشرطة الصينية بحملة أمنية ضد الإيغور المقيمين في بكين، وتفتيش مقارهم، والتدقيق في سجلاتهم، وتعريضهم لمراقبة لصيقة، وذلك ضمن خطة أوسع لتأمين المرافق الحيوية كافة، والأماكن السياحية، والمواقع الحساسة، من أجل تفادي تكرار ما حدث أخيرا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي