دعوة حضور إلى أمك المتوفاة

مرّ أحد أقاربي بيوم عصيب جدًا حينما هطلت عليه ابنته الصغيرة كغيمة مطر. كانت تنزف بغزارة. غمرت المنزل بدموع غزيرة. كانت تحمل في يدها دعوة من معلمتها إلى والدتها لحضور مجلس الأمهات. المشكلة تتجسد في أن هذه الصغيرة ليس لديها أم. لقد ماتت أمها بعد أن وضعتها بشهور. لكن المشكلة الأكبر تكمن في خطاب المعلمة الموجه نصا إلى أمها.
اقترفت المدرسة خطأ جسيما عندما ذكّرت هذه الطالبة الصغيرة بمأساتها غير مكترثة بعواقب هذه الدعوة غير المسؤولة على نفسيتها المخدوشة.
كان من الأحرى أن تقوم مدرستها بمراعاة مشاعر الطالبة. أن تحرص بشدة على قلبها الرقيق عبر توجيه الرسالة إلى جدتها أو خالتها أو عمتها أو أختها بعد التنسيق مع ولي أمرها. اتصال قصير كان سيمنع نزيفا طويلا.
من أزماتنا الحقيقية في مجتمعاتنا العربية أننا لا نلتفت إلى هذه التفاصيل المهمة في حياة هؤلاء الأطفال. لا نعيرها اهتمامنا فنعمق الجروح، التي تسكنهم ونضاعف آلامهم.
بعض أطفالنا، ممن حرموا من والديهم؛ لظروف متفاوتة، تسكنهم براكين خامدة، تتطلب تعاملا إنسانيا شفيفا يجنبها الاستيقاظ وإحداث ما لا تحمد عقباه.
إن وظيفة المعلم أخطر وأعظم وأنبل مهمة. تحتاج إلى قدر كبير من المسوؤلية والدقة والإنسانية.
هذا العمل الميكانيكي غير المسؤول، الذي تقوم به مدارسنا تجاه أطفالنا يستحق وقفة تأن ومراجعة لخطابها التربوي.
منذ أن روى لي قريبي حادثة ابنته وأنا أقرأ بعناية شديدة كل خطاب يصل إلى ابنتي، التي تدرس المرحلة الابتدائية في مانشستر في بريطانيا؛ لأقف على الآلية والطريقة، التي توجه بها مدارسهم خطاباتها.
لم أقرأ منذ ذلك اليوم خطابا موجها نصا إليّ أو إلى أمها. يكتب الخطاب عاما. يوجه إلى والديها إضافة إلى خيار آخر وهو ولي أمرها. لا يحدد طرفا بعينه مهما كانت ظروف الخطاب وملابساته.
كم حقنت هذه اللمسة الصغيرة من دمعة؟ قطعا، الكثير.
إن هذه الخطابات المبكرة، التي يتلقاها أبناؤنا وإخوتنا في صفوفهم الأولية هي رسائل تحمل أبعادا عميقة. قد يقرأها الطفل مرارا وتكرارا، وفي أحيان قد يدخرها في أدراج صدره أو غرفته. فلمَ نحولها من نعمة إلى نقمة؟ من دليل اهتمام إلى شهادة عدم اكتراث.
إننا في أمس الحاجة إلى إعادة النظر في أسلوبنا التربوي؛ للمحافظة على أجيالنا المقبلة من التهشم والغرق في فيضانات الأحزان.
سيتفطر قلب أي شخص ناضج لو تلقى دعوة للحضور موجهة لأمه المتوفاة، فكيف بصغير؟ إنها مأساة تعكس حجم الخلل في منظومتنا التربوية.
ثمة اعتداءات عنف ترتكب يوميا في مدارسنا. اعتداءات لا ترى. لكنها تقتل. إن أشد النزيف مكرًا هو النزيف الداخلي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي