فرية «جهاد النكاح»
تعرض المسلمون في العصور السابقة لفتن كبرى، جمعت هذه الفتن مواصفات التفرقة، وأصلت لقيم أهمها انعدام الثقة بين معتنقي الدين الواحد. حتى أصبح الناس لا يتقبلون كلمة من أي كان إلا بعد المطالبة بالدليل. الكثير من الآراء والاجتهادات التي صدرت من أشخاص ببراءة أو خبث، عن علم أو دون علم جذرت الاختلاف وأسست لفرقة يعيشها المسلمون حتى اليوم.
إدخال الهوى والرغبات الشخصية، ومحاولة الفوز بالعدد الأكبر من المناصرين، والبحث عن الذات في كثير من الأحيان، قوى أثَّرت على معايير الحكم الذي يقدمه من تصدروا الفتوى فيما يخص الكثير من القضايا التي تواجهها المجتمعات في كل مرحلة تاريخية. على أن الاختلاف والخلاف، والتطرف في التعبير عنهما استمر في الظهور والشذوذ عن كل قواعد العقل والمنطق.
وصل الحد بكثيرين إلى أن يدافعوا عن مفاهيم تخالف النص الشرعي الصريح، لمجرد حفظ ماء الوجه بسبب فتوى أو رأي قاله شخص في اجتماع أو موعظة. هذا التركيز على ''الأنا'' ومحاولة تلميعها وتقديسها أوجد لدينا حالات شاذة من التبرك بالأشخاص بغض النظر عن كونهم بشراً لا عصمة لهم. بل إن الكثير من الذين يعيشون هذه الأزمة الفكرية والعقدية لا يستطيعون أن يبرروا ما يقولون أو يدافعوا عمن رأوا فيهم العصمة، وقبلوا أيديهم وأرجلهم تقديساً. عندما يواجهون بأدلة من القرآن والسنة النبوية المطهرة.
بعد أن أصبح الاحتكاك ضرورة، وظهر من يخالف آراء هؤلاء ''المقدسين'' بناء على نصوص صريحة، وأفعال محمد ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ وأصحابه، بدأ اللعب غير النظيف. تأسست مدارس في الغش والخداع ومحاولة التدليس على الناس لضمان أن يصح ما يقوله ''المقدس'' مهما كان مخالفاً للدين بنصوصه ومفاهيمه وقيمه التي جعلت الناس يتهافتون عليه في كل بقاع الأرض.
وصل الأمر بالكثير من هؤلاء إلى دراسة كل ما يتعارض مع المفاهيم والقواعد التي بنوا عليها ''دينهم الجديد''، يدرسونها ويعملون على تكذيب وتفسيق وإدانة كل من أو ما يخالفها. بعد أن كان الناس يجتمعون على حب محمد وآل محمد وصحابته، ظهرت مجموعات تخرجت في هذه المدرسة ''الفاسدة''. تفسر كل آية بتفسيرات ظاهرية وباطنية، تقدم وتؤخر في الأحداث، تكذب وتغير الأحاديث للوصول إلى النتيجة التي توافق هواها. ثم وصل كل هؤلاء إلى قناعة واحدة وهي أنه لن يمكن التخلص من هذا الدين إلا إذا شككنا في الأساس الأول له وهو القرآن الكريم، وهذا ما كان.
بقي الكثير ممن اعترضوا على مفهوم تحريف القرآن على الحياد ولم ينكروا على من يشاركونهم المفاهيم لأن هذه الفرية كبيرة تنقض الدين من أساسه، وتلغي القداسة للكثير من الروايات التفسير الباطني وتحول مجراها لتحقيق هدف معين يريده منحرفو العقيدة الذين أصبح رابطهم الأهم بالدين هو التجارة التي تدرها عليهم تفسيراتهم لآيات بعينها. لكنّ المعترضين بقوا على الحياد أو انسلخوا من المفاهيم سراً لأنه لم يعد بالإمكان إعلان عدم القناعة بالمفاهيم الغريبة.
كل هذا نراه اليوم مجسداً في علاقة الأمة التي أصبحت علاقة شك وريبة وترقب وخوف من الأهداف الكامنة وراء كل سلوك أو كلمة يقولها أي مسلم لأخيه المسلم. انعدام الثقة هذا تحول إلى قاعدة لا يشذ عنها إلا القلة. فعندما يتحدث أي إنسان عن معتنقي مذهب مختلف ويعارضه أحد، يصبح العذر السهل هو أن هؤلاء يخفون في صدورهم عكس ما يظهرونه لكم. لتكرس قيمة لا يمكن أن يخرج منها الناس إلا بأمر الله تعالى.
استرجعت هذا الكم من الشك والتكذيب والخداع الذي نمارسه نحن كمسلمين ضد بعضنا وأنا أقرأ عن الجدل الدائر حول ما سمي ''جهاد النكاح''، الذي روجت له الكثير من المنابر التي تدعي الإسلام وشاركتها في نشره الجمعيات الليبرالية في دول مثل تونس، بانية على رواية كاذبة أخرى حول فتاة تونسية توجهت للجهاد في بلاد الشام، وعادت وهي تحمل طفلاً في بطنها وفيروس الإيدز في كامل جسدها.
تذكرت أن الكثير ممن يحاربون في صف بشار بالكلمة والكذبة هم أول من روج هذه الكذبة الفاضحة الخبيثة التي تهين كل من انتسب للإسلام. فكل العالم لا يعرف أننا نحاول أن نقتل بعضنا بكل الوسائل المتاحة حتى ولو كانت فتوى خبيثة مسيئة للدين كهذه. على أنني لا أستبعد أن أول من فكر في مثل هذه الفرية هم الليبراليون الذين لا يرون قدسية لرباط الزوجية وحرمة للزنا ومقدماته وما يوصل إليه، يدفعني لذلك ما كان يحدث في كل الحروب الحديثة والقديمة من استخدام للعاهرات والبغايا في الترويح عن الجنود من خلال الممارسات التي يحرمها الشرع.
يهدف كل هذا لتشويه صورة الجهاد الإسلامي، ضد من يعلن ليبراليته وقناعته بمنع الدين عن كل مفاصل الدولة، ويضمن ذلك الحق لروسيا وأمريكا المسيحيتين اللتين لا يمكن أن يتجرأ أي من سياسييهما على قول كلمة سوء بحق أي كنيسة في العالم، فيا لنا من أمة ضحكت من جهلها الأمم.