شنغهاي تحاول استرداد ماضيها التليد
تقول مصادر المال والأعمال العالمية إن مؤشراتها لعام 2013 أبرزت أربع مدن كأهم المراكز المالية والمصرفية في العالم. هذه المدن هي لندن ونيويورك وهونج كونج وسنغافورة. وهذه المؤشرات، التي عادة ما تعتمد على بيانات البنك الدولي ومنظمة التنمية والتعاون الاقتصادي، وغيرها من المؤسسات الاقتصادية ذات المصداقية وضعت مدينة شنغهاي الصينية في المركز الـ 24 على الرغم من كل ما فعلته القيادة الصينية لإبرازها كمركز مالي عالمي، بما في ذلك الخطط الحكومية لتحويل المدينة إلى أول منطقة للتجارة الحرة في البر الصيني. والمعروف أن الصينيين حبذوا في الماضي أن يمنحوا هذه الصفة للعاصمة بكين مفضلينها على عدد من الخيارات الأخرى. لكنهم على ما يبدو غيروا رأيهم الآن واقتنعوا بأن شنغهاي تمثل الخيار الأفضل ليس فقط بسبب تاريخها العريق كأهم الموانئ التجارية في شرق آسيا في القرن الـ 19، وإنما أيضا بسبب إمكانية أن تتفوق بمرات عدة على هونج كونج كما كانت في عشرينيات القرن الـ 20.
على أنه من الملاحظ حتى الآن أن تحويل شنغهاي إلى منطقة للتجارة الحرة خلال ثلاثة أعوام، كما هو مخطط، يصطدم بالكثير من المعوقات بدليل أن رئيس الحكومة ''لي كينقيانج'' يناضل اليوم بحماس من أجل تنظيم القطاع المصرفي في شنغهاي وفق المعايير العالمية وفتحه أمام المستثمرين الأجانب، على اعتبار أن هذا القطاع له دور حاسم ورئيس في تحريك عجلة الاقتصاد والاستثمار والاستهلاك الداخلي.
والحقيقة أن شنغهاي تحتاج إلى إطلاق عملية إصلاح لتطوير قطاعاتها التجارية والمالية من أجل تنميتها تنمية مثلى. ذلك أنه على الرغم من توسع حجم اقتصادها ''بفضل احتضانها صناعات الصين الرئيسة كصناعة الآلات والسفن والكيماويات والإلكترونيات والنسيج''، وزيادة عدد سكانها بالأرقام المطلقة ''يسكنها مع ضواحيها اليوم أكثر من 35 مليون نسمة''، فإن دورها النسبي ضمن مدن البلاد الكبرى ''أي تلك التي يزيد عدد سكانها على خمسة ملايين نسمة'' في تراجع بسبب توسع المدن والحواضر المتوسطة التي يسكنها مليون نسمة وما فوق، وبالتالي استقطابها المستثمرين، ولا سيما في قطاع البناء والإنشاءات.
والمعروف تاريخيا أن شنغهاي ظلت ما بين القرنين 11 و18 للميلاد مجرد قرية لا ذكر لها إلا عند صيادي الأسماك، لكنها برزت كأنشط ميناء تجاري وصناعي ومصرفي في آسيا في أعقاب اتفاقية نانكين لعام 1842 التي وضعت حدا لحرب الأفيون بين بريطانيا والصين ومنحت البريطانيين امتيازات خاصة في المدينة، قبل أن تحصل دول أخرى مثل فرنسا والولايات المتحدة على امتيازات مماثلة. ففي ظل هذا المناخ الجديد تدفقت المصارف والشركات التجارية العالمية والأصول الأجنبية على شنغهاي، محققة لها ولسكانها ازدهارا مشهودا تجسد في ظهور العديد من الصناعات والأنشطة، وتشغيل معظم الأيدي العاملة، وتحول المدينة إلى ميناء لا يهدأ على مدار الساعة.
غير أن الصينيين كانوا، رغم ذلك الخير العميم، تواقين للتحلل مما تم منحه للأجانب من امتيازات، فقاد الحزب الشيوعي الصيني في عام 1921 أولى محاولات التخلص من هيمنة الأجانب على شنغهاي، ونجحوا في الاستيلاء عليها. لكن قوات الكومينتانج الوطنية التي كانت قد أسقطت حكم سلالة ''تشينج'' في عام 1911 وأقامت جمهورية الصين الوطنية نجحت لاحقا في طردهم منها واستعادتها مع الإبقاء على الامتيازات الأجنبية فيها. وما بين عامي 1937 و1945 وقعت شنغهاي تحت الاحتلال الياباني، وبانتهاء الحرب الكونية الثانية استعادتها حكومة الكومينتانج، وتخلى الأجانب عن امتيازاتهم فيها، إلى أن سقطت في أيدي القوات الشيوعية بقيادة ''ماوتسي تونج'' في عام 1949. ويجب هنا أن نستدرك ونقول إن الحرب الأهلية بين الشيوعيين والوطنيين في الثلاثينيات، والاحتلال الياباني والحرب الكونية الثانية ألحقت ضررا باستقرار شانغهاي، الأمر الذي دفع المستثمرين الأجانب ومعهم رجال أعمال كثر من شنغهاي نفسها لإغلاق مكاتبهم وتصفية أعمالهم في المدينة والانتقال منها إلى مستعمرة هونج كونج البريطانية القريبة.
وفي ظل الحكم الماوي قاست شنغهاي، أو ما كانت تُعرف باسم ''لؤلؤ الشرق'' أوضاعا صعبة، ولا سيما حينما دشن ماو ثورته الثقافية المجنونة التي قضت على أفضل المواهب والعقول الاقتصادية والتجارية في شنغهاي، وجعلت من الجيش الأحمر متحكما في كل مفاصلها وأنشطتها. في هذه الأثناء كانت هونج كونج تحت الإدارة البريطانية، وبجهود وأموال الصينيين النازحين إليها من شنغهاي تحقق نجاحات مدهشة على مختلف الصعد وتعانق السماء بمنتجاتها الصناعية المتنوعة وحركتها التجارية والمالية وأنشطتها المصرفية، بل صارت منفذا للصين الشيوعية للتعامل مع العالم والتخلص من عزلتها المريرة التي صنعتها بنفسها.
والحال أن الأوضاع المأساوية لشانغهاي لم تتغير نحو الأفضل، إلا في عام 1979 مع تدشين الانفتاح الاقتصادي على يد الزعيم دينج هسياو بينج. هذا الانفتاح الذي دفع بإنتاجها الصناعي قدما، ومنح سكانها أملا في مستقبل أفضل. ومنذ أوائل تسعينيات القرن الماضي منح صناع القرار في بكين لحكومة شنغهاي المحلية بقيادة الرئيس الأسبق جيانج زيمين سلطة تطوير البنى التحتية لشنغهاي وضواحيها وإنشاء المزيد من الطرق السريعة والمطارات والجسور والأنفاق وناطحات السحاب فيها، وجلب المزيد من الاستثمارات الأجنبية لها في محاولة لتفوق ''هونج كونج'' كمركز صناعي وتجاري ومالي.
وقد قامت حكومة ''زيمين'' المحلية بأعمال رائعة في شنغهاي، التي صارت تحت قيادته المصدر الأكبر لأموال الضرائب المتدفقة على الخزينة الصينية. وبسبب ذلك ارتفع رصيد الرجل عند رؤسائه في بكين، بل كان ذلك أحد أسباب صعوده إلى قمة هرم السلطة. غير أنه لم يتمكن من تخليص بلاده من الاعتماد على هونج كونج كمعبر للتحويلات المالية.
ذلك أنه حتى بعد بدء عملية تطوير حي ''بوندونج'' في شنغهاي في عام 1992 ليكون مركزا للمال والأعمال ومنافسا لهونج كونج، وحتى بعد عام 1997، وهو العام الذي شهد انفتاح الصين اقتصاديا على أعلى مستوياته واستعاد فيه الصينيون سيادتهم على المستعمرة البريطانية السابقة، لم يكن هناك مجال للاستغناء عن هونج كونج بسبب البون الشاسع بين الأخيرة وشنغهاي لجهة البنى التحتية والقوانين الشفافة المنظمة للأعمال المصرفية والحريات الاقتصادية الكاملة.
لذا أقرت القيادة الصينية في عام 2009 خطة لتحويل شنغهاي إلى أهم مركز تجاري ومالي وميناء للشحن في العالم بحلول عام 2020. في هذه الأثناء تعمل هونج كونج كي تحتفظ بصيتها وتعزز مكانتها عبر الاندماج اقتصاديا مع إقليم ''شينزيهن'' الصيني المجاور لها، أو عبر التكامل مع إقليم صيني آخر هو ''غوانغدونغ''، أو عبر الاثنين معا.