حبة العيد ما بها منَّة
لا يعرف أولادنا عيد الأضحى الذي عشناه ونحن صغار .. أشياء كثيرة لم تعد حاضرة اليوم .. فقد كانت أبرز الأحداث التي تسبق العيد برقيات الحجاج إلى ذويهم يتناقلون البشرى حين يدق بابهم ساعي البريد حاملا معه برقية من ذويهم يخبرونهم أنهم بلغوا الديار المقدسة .. وكان السؤال الملحاح من الجميع ''بشروا .. هل جاءتكم برقية من أهلكم؟'' فقد كان الهاتف شيئاً مجهولاً تماماً ولا وسيلة سوى البرقية التي لم يعد لها من دور اليوم إلا في النادر.
كان الأطفال يعيشون هيصة الأضاحي من حين ذهاب آبائهم إلى الأسواق التي في ناحية من البلدة تكتظ بالأباعر والخرفان إلى اليوم الذي يأتي فيه الجزار إلى المنزل حاملاً عدته صباح العيد؛ لينحر الأضاحي وليقدم له أهل البيت أول قطع لحم منها حميسة أو كبدة نيّة .. ثم يتولى الأطفال توزيع طعمة الضحية على الجيران والأقارب الذين بدورهم يستوقفونهم ليأخذوا طعمة ضحيتهم مقابل ما قدّموه .. نوعاً من المشاركة لا تخلف وعدها.
لكن الأطفال أيضاً أولاداً وبنات يخبون في جديد ثيابهم .. الأولاد بناصع بياض الثوب والبنات بمزركشها .. يدقون الأبواب لما كان يسمى ''الحقاق'' وهو هدية العيد من حمص وحلوى وربما تجود عليهم يد حانية بقطع نقد معدنية من فئة ''أربع قروش الضخمة'' أو ''نصف الريال'' كما أن لليل العيد عند الفتيان والفتيات سهرته الخاصة التي تسمّى ''السواق'' وهي حفلة يجتمعون فيها على مائدة فريدة مكوناتها معلبات الكرز والأناناس والتونة والشعيرية وفي الغالب تكون منتهية الصلاحية .. ففي ذلك الزمان لم يوجد بعد مصطلح نهاية الصلاحية للمنتج وربما كان معظم ما كان موجوداً في حوانيت البلدات آنذاك رجيع مصانع الحرب العالمية الثانية!
لا تغيب عن بال طفولة الأمس رؤية الأمهات والأخوات وهن منكبات على الخصاصيف والحصائر والتباسي يقطعون اللحم ويجمعون الشحم .. بعض اللحم (الحميس) يطبخ في قدور كبيرة تسمى ''الحجري'' لكي يتم بعد ذلك تمليحها أكثر ونشرها على الخصاصيف أو يتم نظم بعضها في حبال تعلق على الأوتاد في ''روشن'' أي حجرة علوية تخصّص للحم .. فيما يتم تشريح بعض اللحم إلى قطع طويلة يذر عليها الملح نيئة ثم تعلق في حبال وتترك لتجفيف في ''الروشن'' ويسمونها ''قفر'' .. أما الشحم فيطهى في القدور حتى يذوب ولا يتبقى منه إلا نتف صغيرة يسمونها ''الخلع'' فيما الدهن ''وهو زيت الشحم'' يعبأ بعد أن يبرد في أوانٍ خاصة به وبعضها يعبأ في الأمعاء الغليظة ''المصران'' للإبل لكي يتم استهلاكها، وكذلك الأمر مع الحميس والقفر على دفعات وبحرص شديد طوال العام، خصوصاً في المناسبات المهمة أو عند وجود ضيوف.
عيد الأضحى بالذات كان موسماً حاتمياً يشفي فيه الناس لهفتهم للحم الذي كان حينها نادراً ما تعرفه البيوت إلا عند ذبح تميمة أو مناسبة زواج أو عزومة ضيف عزيز على أهل البيت.
بقي من مظاهرة العيد غداء العيد الذي تفرش الحارات في البلدات سماطه في ناحية من الشارع حيث يشارك أهل كل بيت في الحارة بطبق من الأرز واللحم أو الجريش وما شابه ذلك .. وهو طقس يتيح لأهل الحي أن يبارك بعضهم لبعضهم في العيد .. أما الأقارب والأصحاب فقد كان الأمر يتطلب الذهاب إليهم سيراً على الأقدام أو على سيارة لمَن هو محظوظٌ في امتلاكها.
كان لقاء العيد آنذاك وجهاً لوجه.. سلامه، عناقه وكلمات الترحيب فشعار الكبار والصغار: ''حبة العيد ما بها منَّة'' غير أن الزمن سار بنا شوطاً بعيداً فلم يعد أحد يبعث ببرقية من مكة المكرّمة أو غيرها، وانقرضت الخطابات ولحقت بها البطاقات وتوارينا جميعاً تقريباً خلف أجهزة هواتفنا نبعث بالرسائل في لحظة .. كلمات مباركة روتينية في قاسم مشترك للكل .. وقليل منا مَن يمسك بالهاتف لكي يزف تباريكه بصوته لقريبه أو صديقه .. ولا علاقة في هذا بسوء فينا أو تبلد في الحس، لكنه إيقاع العصر الذي لا يقاوم .. كما لا يقاوم أن أتمنى لكم جميعاً عيداً سعيداً، وكل عام وأنتم بخير.