السائق تحت التمرين

اشتهر عن المملكة أنها أسرع وسيلة لنقل التقنية من الغرب إلى الشرق. سرت هذه الفكرة بين الناس في الثمانينيات، وما زلنا نعاني مشكلة التعاقد مع ممرضات من دول آسيا، حيث تبقى الواحدة في المملكة لسنتين أو أربع، ومن ثم يصبح لديها من الخبرة ما يسمح لها بالمنافسة على وظائف في أوروبا وشمال أمريكا.
يأتي الطبيب بعد تخرجه مباشرة للمملكة من أي دولة، يعمل لفترة في مستشفى تضم أفضل التقنيات وتتعامل مع مختلف الأمراض، بل يمكن أن يجرب فيها ما شاء من الفحوص والتحاليل، سواء كانت قانونية أم لا، فليس هناك من يحاسبه، ليخرج بحصيلة كبيرة من المعلومات ويطور مهاراته بشكل لا يمكن أن يتحقق في بيئات تحكمها قوانين الحماية للمرضى، والعقاب على الأخطاء الطبية. لينتقل بعد ذلك للعمل في أي دولة يشاء بهذه الخبرة الكبيرة.
يضمن المهندسون الأجانب الفرصة نفسها، بل بشكل أكبر للتعلم والاستفادة من المشاريع الكبرى التي تنفذ في البلاد. السبب الأهم هو أن المهندس الذي يرغب في التعلم سيحقق ما يشاء بما يتوافر من الدورات والتأهيل المرتبط بالمشاريع، ورغبة الكثير من زملائه السعوديين في الدعة والراحة، ليتولى الأجنبي مهمة إدارة المشروع بعد فترة لا تتجاوز الأشهر، بناء على المهارات والالتزام الذي يبديه. فإذا انتقل خارج المملكة حصل على فرصة العمل بأضعاف ما كان يحصل عليه من المبالغ هنا.
تتكرر الحالة مع المتخصصين في مختلف المجالات، سواء الإدارة أو التخطيط أو التدريب أو الاستشارات بمختلف مجالاتها، ويسيطر على هذه الحالات أمران مهمان:
الأول هو الحاجة الماسة للوظيفة وما عاناه هؤلاء في دولهم من شح الفرص الوظيفية والتدريبية وانخفاض الرواتب، التي ليست بالسبب الأول للقدوم للمملكة.
الثاني هو الالتزام الذي يبديه القادمون من الخارج بسبب تربيتهم ومعرفتهم بالمصاعب، التي يمكن أن يواجهها أي شخص لا يلتزم بتطوير قدراته. هذا الالتزام هو العنصر الفعال، والذي يسبب استمرار الحاجة لاستقدام الأجانب للعمل في وظائف يمكن أن يشغلها خريجو جامعاتنا من كليات الطب والهندسة والإدارة والقانون والعلوم الطبية، وحتى كليات التقنية التي لا تحقق قدرات مخرجاتها الحد الأدنى من متطلبات السوق.
الكل يعلم كم الشعب السعودي متعلق بالعمل الحكومي. حتى إن الواحد منا يمكن أن يتنازل عن وظيفة في القطاع الخاص توفر ضعف دخله للالتحاق بوظيفة حكومية لا تلزمه بالقدر نفسه من الالتزام بأوقات العمل ومتطلباته. أعرف أن الكثير من الشباب الذين هربوا من وظائف القطاع الخاص ما زالوا يعيشون على رواتب متدنية ويواجهون صعوبات الحياة بالتذمر والشكوى. وأعرف قلة تحملوا وصمدوا يحققون اليوم رواتب كبيرة وفرص حياة رغيدة لهم ولأسرهم.
تسببت الإشكاليات التي نواجهها اليوم في المطالبات المستمرة بإعادة النظر في البرامج التربوية والتعليمية والتوجه نحو توعية الأسرة في مجال تربية الأبناء للاستفادة من الوقت والالتزام بمفاهيم الإنجاز وتحسين الأداء كمداخل لبناء مجتمع عملي منضبط، وهي جهود لا تزال دون المستوى المطلوب.
ضرر الاعتماد على الأجانب حوَّل المملكة إلى حقل تجارب يخرج منه المتعاقد بالكثير من الدروس. ساهم في تعزيز مفهوم انعدام القوانين الحامية أو إعاقتها من قبل الجهات التي تطبقها. حتى انتشرت مقولة إن لدينا أفضل القوانين وأسوأ تطبيق. الخطر الذي يؤدي إليه ذلك، هو انتهاك القوانين بصورة صارخة من قبل الجميع.
ولأن المجتمع يؤثر على أعضائه، فإن السائق الذي يأتي للمملكة وهو قمة في الخلق والالتزام بقوانين المرور، يتحول خلال فترة وجيزة إلى مغامر يقود بسرعات عالية ويرتكب أنواع المخالفات. المؤسف هو أن الركاب غالباً هم الذين يدفعون السائق لتلك المخالفات، فهم كفلاؤه. ضرر هؤلاء يتجاوز ارتكاب المخالفات وإنما التشجيع على ذلك.
جاءت فكرة جديدة لتصبح قاعدة في الشوارع. تتعاقد الأسرة مع أي شخص من الداخل أو الخارج، وتسلمه السيارة، وتضع على الزجاج الخلفي لوحة تقول "السائق تحت التمرين". ليهرب الجميع من سيارة المتدرب وتحمي الأسرة نفسها من المطالبات في حالة ارتكاب السائق أي مخالفة من قبل الجمهور.
تبقى اللوحة مكانها شهوراً وقد تبقى لسنة أو أكثر، لأنها توفر حماية ولو كانت غير نظامية، فهي بالتعاون مع بعض الدموع والترجي وكلمات البابا والماما من السائق الذي تدرب حتى على كيفية خداع مواطن عاطفي يحب الإطراء ويتعاطف مع البكاء، تسمح للسائق بفعل الكثير من الأمور التي يمكن أن توقع السائق في مشاكل لو لم تكن اللوحة موجودة. لكن أين من هذا كله الجهات الرسمية، خصوصاً المرور. لا بد أن يُمنع مثل هذا السلوك ويعاقب الكفيل الذي يدفع بشخص غير مؤهل في الشوارع، فشوارعنا ليست حقول تجارب، وأرواح الناس مسؤولية كبرى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي