تسلُّق المعلمات

يأتي كل عام دراسي جديد بمجموعة جديدة من الطرائف السعيدة والمحزنة في بعض الأحيان. لا يمكن أن يتفوق على مشكلات التعيين في مناطق نائية أي مشكلات في المدارس أو المناطق التعليمية. تلك المشكلات تكشف حال البنية التحتية والحاجة الماسة لإعادة تخطيط المدن بما يوافق النمو السكاني، وضمان توفير الخدمات الأساسية كالكهرباء والطرق والاتصالات والمياه.
تستمر فرحة المعينين الجدد من المعلمين والمعلمات فترة لا تتجاوز الساعات. يبدو أن أكبر أعداء هؤلاء في أول يوم تعيين هو ''خرائط قوقل''. الغالب أنهم، وإن وجدوا المنطقة التعليمية والمحافظة، فلن يجدوا المركز الذي تم تعيينهم فيه لأنه غير موجود أصلاً على الخريطة. من هنا تبدأ مشقة التعيين لينطلق كل واحد في رحلة ''التحضير'' في الوظيفة الجديدة.
يصل المعين الحديث إلى إدارة تعليم المنطقة، ليتسلم خطاب التوجيه للمدرسة التي كانت من نصيبه أو كان هو من نصيبها. المدرسة يتغير معلموها كل عام تقريباً، لا يبقى فيها سوى أبناء القرية التي تجاورها إن هم لم يهربوا في الأساس. يبدأ من هنا دور السؤال بين السكان والبلديات وأصحاب الشقق التي يسكنها ''عادة'' المعلمون والمعلمات، ويحتفظ أصحابها بعناوين وأرقام جوالات قائدي سيارات توصيل المعلمات. يصل بطل ''الراليات'' ليقابل ''محرم'' المعينة حديثاً ويدله على مكان المدرسة وعدد الطرق التي توصل إليها.
إنَّ الشاب في مرحلة كهذه يمكن أن يستفيد من التجربة في تكوين شخصيته والتعرف على سلوكيات وطرق تعامل مناطق لم يكن يعرفها. ليس هناك ما يمنع أن يتم تعيين الشباب في أماكن نائية لأسباب كثيرة، ما دام الواحد منهم في مقتبل عمره وبإمكانه أن يسكن مع زملائه ويتعاونوا على مصاعب الحياة الجديدة. أعرف كثيرين ممن تغيرت أساليب حياتهم، وارتفع حسهم بالمسؤولية بعد أن اضطروا للعيش بعيداً عن حماية وحضن الوالدين.
أما المعلمات فاسمحوا لي بأن أقول إن تعيينهن في مناطق نائية هو جناية على أسرة كاملة. الفتاة بحاجة لمن يرافقها في موقعها الجديد. وهي طول السنة معرضة للكثير من المصاعب التي لا يتقبل المجتمع أن تتعرض لها سواء في سكن المعلمات أو مع السائق أو السائقين الذين يتعاقدون معها، انتهاءً بالحالة الصحية لمرافقها، خصوصاً من يرافقها كبير سن، وهن الأغلبية، هنا يكمن الفرق بين الفتاة والشاب.
إن تعيين المعلمة في مدرسة تبعد عن الحضارة قروناً، ويلزمها أن تعيش في سكن يبعد أكثر من 100 كيلومتر عن المدرسة التي عُيِّنت فيها، وتضطر في الوقت نفسه أن تتعاقد مع سيارتين لإيصالها وإعادتها كل يوم، وتعيش هذه الرحلة لمدة خمس أو ست ساعات في اليوم لهو برنامج تأهيل لـ ''مستشفى المجانين'' إن لم تفقد حياتها أثناء هذا البرنامج في الطريق. فكيف إذا اضطرت بعد ذلك لتسلق الجبال؟ ثم تطالبها تعليمات الوزارة بأن تكون بشوشة ومنفتحة مع الطالبات، إنه جنون رسمي.
هذه الحال تعانيها مدرسات تم تعيينهن في مدرسة تقع في أعلى جبل ''صمدة'' حيث تصحو الواحدة منهن لتركب في سيارة تنقلها جزءاً من الطريق، ثم ينتقلن إلى سيارة أخرى يحاربن معها مطبات ووعورة الطريق بين الأسفلت والجبل في رحلة تستمر ساعة أو أكثر اعتماداً على الوضع وحالة الرؤية، يتخللها الدعاء بألا ينفجر إطار السيارة أو تتعرض لمشكلة توقفها عن السير وترمي بهن تحت رحمة الصحراء، هذا الدعاء يتكرر من أفواه المعلمات وأمهاتهن وآبائهن وعائلاتهن طوال السنة.
ثم يأتي التحدي الذي تعيشه هؤلاء المعلمات دون غيرهن، ألا وهو حمل أغراضهن والتنقل على الأقدام، بل التسلق حتى يصلن إلى المدرسة، لا ألوم من صمم المدرسة أو اختار لها هذا الموقع، فهو تفاءل بأن يكون مشروع المدرسة فاتحة لوصول الأسفلت، فهي دائرة حكومية تعتمد عليها مجموعة قرى. لكنه أخطأ في التوقع، فليس هناك توازن في تنمية المناطق وليست هناك خطة استراتيجية تجمع بين معطيات التعليم والصحة والمياه والكهرباء والاتصالات والخدمات البلدية، فكلٌّ يغنِّي على ليلاه.
مع أهمية إيجاد البنية التحتية في مناطق المملكة كافة، وضرورة تكوين تنظيم موحد يربط مجموعة الخطط ببعضها بما يضمن توفير الخدمات بتوازن ومنطقية لكل السكان مهما كان موقعهم من الخريطة. يأتي أمر أهمية الاستعجال في تنفيذه أكبر وهو من مسؤوليات وزارة التربية والتعليم. إن مسؤولية الوزارة تستدعي أن تحمي المعلمات – خصوصاً – من المخاطر التي ذكرت هنا ومخاطر أخرى قد لا أكون على علم بها، فليس أقل من أن توفر الوزارة سكناً آمناً للمعلمات داخل المدرسة التي تقع في منطقة نائية. أعتقد أن مشروعاً كهذا لن يكلف الوزارة أكثر من مليون ريال إضافية على ميزانية مشروع إنشاء المدرسة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي