الإخلاء الطبي بأوامر عليا.. لماذا؟
أذكر أنه عندما تعرض أبي ـــ رحمه الله ــــ لجلطة دماغية، بقيت أجوب الممرات وأبحث عن الواسطات للحصول على أمر إخلاء إلى المستشفى العسكري في الرياض. تتطلب الموافقة على قبول المريض إجراءات طويلة، تعتمد على قرار طبيب استشاري، ومن ثم الحصول على السرير من القسم المختص ''خصوصاً العناية الفائقة''، ثم تأتي رحلة البحث عمن يخدمك في الإخلاء الطبي.
كل واحدة من تلك الخطوات أصعب من صاحبتها. أكد لي المدير الطبي أنه ليس من المناسب نقل أبي إلى المستشفى بحالته الراهنة، لكنني لم أكن أصدقه لأنني قبل ساعة كنت في مكتب المدير أتابع ''الشفاعات'' تأتي من كل مكان، وسكرتير المدير يطلب رؤساء الأقسام للحديث مع المدير بطريقة جعلتني أؤمن بأن المستشفى تحكمه العلاقات الشخصية وليس القرارات الطبية. حاول الطبيب إقناعي لكنني لم ألتفت لكلامه، وذهبت لمدير المستشفى الذي وصلته مكالمة قبلها بقليل من رئيسي الذي طالبه بـ ''تدبير'' الموضوع.
بعد إصراري، اتصل مدير المستشفى بطبيب باطني يمكن أن أسميه ''حلال العقد'' وأمره بقبول الحالة، وهذا ما حدث. بقيت قضية السرير، وراقبوا ما حدث معي هنا. خرجت وقابلني زميل، أثناء شكواي قال لا تهتم لأحد. اذهب إلى الطبيب فلان، وهو بريطاني يرأس قسم العناية الفائقة. عندما يشاهد أنك من منسوبي القوات المسلحة سوف يوافق لك فوراً. وهذا ما حدث.
تذكرت تلك الأيام العصيبة وأنا أقرأ عن الطفلة ''تالا''. طفلة بدأت مأساتها بسبب تشخيص طبي خاطئ، قاد إلى فقدها البصر وشل حركتها وأفقدها النطق. قررت الطبيبة الاستشارية أن الطفلة تعاني نوبات صرع، والواقع أنها كانت تعاني نزيفا في المخ وتجمع ماء في الرأس. طالب والدا الطفلة الطبيبة بمراجعة نتائج الأشعة لكنها رفضت. تدهورت حالة الطفلة وبدأت تفقد قدراتها من النطق والرؤية والحركة، غضب والداها بسبب التشخيص الخاطئ لحالة ابنتهما. فعلا ما يمكن أن يفعله أي أب أو أم يشاهد فلذة كبده تذوي أمام عينيه، فأحيلا للشرطة حيث تم إيقافهما، وإطلاق سراحهما بعد فترة.
أظن أن وصول القضية إلى الشرطة كان لا بد أن يدق نواقيس الخطر في كل أقسام المستشفى والمديرية العامة للشؤون الصحية في المنطقة. حياة الناس ليست لعبة، والزمالة والصداقة و''الفزعة'' والعلاقة الشخصية لا مكان لها عندما يتعلق الأمر بتهديد حياة إنسان بهذا الشكل. أعتقد أن هؤلاء يظنون أن القتل لا يكون إلا بالأسلحة النارية والفتاكة. لم يدرك أحد أن عملية قتل تجري بل هي أكبر من ذلك.
مؤسف ألا يعلم مسؤولو الشؤون الصحية بمكان تنويم الطفلة، وهي قضية مهمة تدور أحداثها منذ ثلاثة أشهر. ومسيء لكل من يعمل في الخدمة الصحية أن يصرح مسؤول الشؤون الصحية في المدينة المنورة بأن الطفلة موجودة في العناية المركزة في مستشفى الولادة والأطفال، وواقع الأمر أنها نقلت إلى مستشفى المواساة. خطير أن يهتم المتحدث بالقشور، ويفيدنا بأن الطفلة تخضع للعلاج من قبل فريق طبي يرأسه فلان، وأنه تتم متابعته حالتها من قبل الطبيب علان، وهي في الواقع تقبع في غرفة عادية في مستشفى المواساة، تدل على أنهم فقدوا الأمل في شفائها.
أحب أن أركز على هذه النقطة هنا. أرجو أن يصدر أمر من وزير الصحة يمنع مثل هذه التصريحات غير الإنسانية. يمنع فيه ذكر أي مسؤول وجهوده الجبارة في متابعة حالة، ويحرم تبرير أي خطأ لوسائل الإعلام، وينهي عمليات تجيير المسؤولية لأهالي المرضى بشكل عام.
أعود للقضية. اتصل مسؤول في الإخلاء الطبي بوالدة الطفلة ''تالا'' ليبلغها بصدور ''أوامر عليا'' بنقل ابنتها إلى الرياض. كان هذا بعد أن رفعت المسكينة برقية لخادم الحرمين الشريفين. تخيلوا أن يصدر أمر من الديوان الملكي بنقل مريضة من مستشفى إلى مستشفى داخل المملكة، تلك والله قضية لا بد أن يحاسب عليها كل من تسبب في هذا ''الكوليسترول البيروقراطي''.
كل الحالات المرضية التي تحتاج إلى النقل لا بد أن تنقل بقرار من داخل المنطقة التي تقع ضمنها. لماذا نشغل كبار المسؤولين بأمور إجرائية يستطيع مسؤولو المنطقة التعامل معها؟ الموافقات على التنويم وقبول الحالات لا بد أن تتم بالحاسب الآلي، وليس هناك ما يستدعي أن تجتمع اللجان وتتضارب الآراء وتشتغل ''الواسطات'' في قضية تحدث عشرات المرات على الأقل في كل يوم.
ثم يأتي الحل الأهم، الذي يجب أن يتم عاجلاً ما دامت الوزارة في وضع مالي ممتاز، وهو إيجاد مراكز طبية متقدمة خارج مدينتي الرياض وجدة. هذه المملكة ''القارة'' تستدعي تعميم المراكز العلاجية المتقدمة، وتخفيف الضغط على المركز، ولتراجع الوزارة تكاليف تنقل المرضى وعلاجهم في الرياض لتكتشف أنها حتى لو نظرت للأمر من ناحية مالية بحتة ــــ بعيداً عن الإنسانية ــــ فهي توفر مئات الملايين عندما توزع مراكز العلاج المتقدمة.