كتابة العدل مرة أخرى
كتبت مقالاً في عدد ''الاقتصادية'' رقم 7183 الصادر في الثاني من شعبان 1434هـ بعنوان ''عطني إثباتك''. ناقشت في المقال قضية مهمة جداً وهي اعتقاد بعض الموظفين أن لهم الحق في كسر القوانين وإهانة المواطن من خلال استغلال وجودهم على كراسي تضمن لهم حصانة قانونية. ضربت أمثلة منها ما حدث في إحدى كتابات العدل في مدينة الرياض.
وصلتني رسالة إلكترونية بعد نشر المقال بأكثر من شهر ونصف من مدير إدارة الإعلام والنشر بوزارة العدل مستفسراً عما ورد في المقال عن كتابة العدل وتاريخ الحالة والمنطقة التي وقعت فيها الحادثة التي ذكرت. قررت أن أعاقب الإدارة بعدم الرد الفوري على رسالتها التي جاءت متأخرة ـــ في نظري. اضطر المسؤول للاتصال بي شخصياً للسؤال عن الموضوع، قلت له إنني قررت أن أتعامل مع الموضوع بطريقتكم نفسها أي بعد شهر ونصف، لكنني لم أصبر وأرسلت الرد بعد أسبوع من تاريخ المكالمة.
جميل أن يكون هناك تفاعل مع ما ينشر في الصحافة، وللحق أقول إن هناك جهات تتفاعل مع الحدث بسرعة وتكلف مسؤولين كبارا لمناقشة الكتاب وتوضيح الوضع لهم، بل والعمل على حل الإشكالات وإبلاغ الكاتب بما يتم، ومن أهم هذه الجهات شركة الكهرباء التي تتفاعل مع ما يكتب وتحاول أن توضح الأمور من وجهة نظرها ــــ بناء على تجربتي معهم.
تفاعل إدارة الإعلام والنشر بوزارة العدل يدل على أن هناك أملاً في أن يصبح بين الصحافة والوزارة تواصل يمكن أن يؤدي إلى إيصال صوت المواطن للمسؤول دون المرور على قنوات بيروقراطية تغير محتواه أو شكله أو لونه. الكل يعلم أن وزارة العدل من أهم الوزارات التي يتعامل معها المواطن. وهي مطالبة بالعمل على تطوير المرفق ورفع كفاءته وتحقيق الأهداف في الوقت المناسب بما يتوافق مع متطلبات العصر.
مرفق القضاء حصل على دعم كبير من خلال برنامج خادم الحرمين الشريفين لتطوير القضاء. لكنني، مثل غيري لم أر ما يبشر بانفراج مهم في مدد التقاضي التي لا تزال في ازدياد. إضافة إلى النقص الكبير في تعداد القضاة والكادر المساعد لهم، وبرغم كل ذلك فالقضاة يشغلون أنفسهم بأعمال إدارية يمكن أن يؤديها غيرهم ليتفرغوا للمهمة الأساس التي هي صميم عملهم. على أن ربط منظومة القضاء بوزارة العدل إدارياً وتنفيذياً، يحتاج لإعادة نظر.
إحدى المشاكل الكبرى التي تعانيها المملكة في مختلف قطاعات الدولة هي عدم تطبيق العقوبات المناسبة لمن يخالفون النظام أو يرتكبون أعمالاً تسيء للمرفق الذي يعملون فيه. القضايا الفردية تتحول بين عشية وضحاها إلى قضايا مجتمعية تسيء إلى سمعة كل من يعمل في المرفق. أزعم أن المهم هنا هو أن تكون العقوبات على مستوى يتجاوز العقوبات التي توقع على أشخاص غير مسؤولين. ذلك أن الموظف العام يحصل على حصانة تحميه من أمور كثيرة، ولابد في المقابل أن يعاقب بما يستحقه عندما يخون الأمانة الملقاة على عاتقه.
تداولت الصحف خبراً مفاده أن كاتب عدل قام بالتنسيق مع أحد ملاك المخططات في جنوب جدة لتغيير مساحة أرض المخطط بإضافة أراض أوصلت مساحته إلى مليون متر مربع. تبلغ قيمة المخطط اليوم ما يقارب ملياري ريال، ومرتكب المخالفة كاتب عدل متقاعد. تصرف كاتب عدل بملء إرادته وبالتنسيق مع صاحب المخطط المخالف، ومن أمن العقوبة يفعل الكثير.
إن العقاب الذي يجب أن يفرض على كاتب العدل وصاحب المخطط لابد أن يكون مغلظاً بحيث يضمن أن تكشف هوية الاثنين ويعلن عن عقابهما، وهناك من القرارات ما يدفع غير هذا الكاتب إلى التفكير كثيراً وملياً قبل ارتكاب مثل هذه الجريمة. العقوبات المغلظة تهدف للعقاب وضمان عدم انتشار المخالفة بجعل المرء يعيد التفكير قبل ارتكاب المخالفات.
أذكر أن صدام حسين كان يعاقب من يرفع أسعار المواد الغذائية بالقتل عندما فرضت الأمم المتحدة حصاراً اقتصادياً على العراق. تلك حالة شاذة، ولكنها ضمنت ألا يغش أحد في تسعير المواد الغذائية لمعرفته بالعقوبة التي تنتظره. أنا لا أطالب بمثل هذا التطرف في العقوبات، لكن ما يحدث اليوم من تجريم وإصدار قرارات العقوبات بسرية ومراعاة منتهكي النظام على حساب الصالح العام، يجعلني أتوقع المزيد من المخالفات. فالفصل أو التغريم بما يعادل ما أخذه المخالف هو من قبيل التشجيع لغيره ما دام لن يفقد شيئاً سوى ما سرق.
يبقى أن نعتمد سياسة التحقيق في المخالفة وإيقاع العقوبة على الموظف العام من قبل جهة غير التي ينتمي إليها. ذلك أن العلاقات الشخصية والخوف مما يمكن أن يكشفه المخالف، يؤدي إلى إيقاع عقوبات مخففة، بل إنه يؤدي إلى تجذُّر الفساد داخل المنظومة الحكومية.