من دون طاش .. رتابة وابتذال

انقضى شهر رمضان، تحولت حياة الناس إلى اهتمامات مختلفة عما كان في الشهر الفضيل. يبدأ رمضان بالوعود، واحد من أكثر الوعود التي كنت أقطعها على نفسي، ولا أفي بها هو الابتعاد عن مشاهدة "سيرك" ما بعد صلاة المغرب. نعم هو أقرب ما يكون للسيرك الذي يبذل فيه كل فريق جهوداً جبارة للفوز بأكبر عدد من المشاهدين. يتفق أغلب المشاهدين على أنهم يتابعون البرامج نفسها.
كان الجاذب الأكبر في رمضان لسنين طويلة هو العمل الذي بدأ كمحاولة لنقد الوضع في المجتمع وأسلوب تعامل الإعلام مع الأحداث، عندما شاهدنا مراسل قناة "طش إم طش" وهو يتابع الأحداث العالمية ناقداً طريقة الإعلام العربي في نقل الخبر وسيطرة فئات معينة عليه، ثم توجه البرنامج لرصد وتحليل ونقد أكثر ما يؤثر في المجتمع السعودي من تعاملات وأحداث وسلوكيات.
حارب كثيرون البرنامج ونال قدراً غير قليل من النقد والسب، وتصدر خطب الجمعة لأسلوبه الكاشف الذي لا يعترف بالفروق الاجتماعية. لكنه استمر في تسجيل أكبر أعداد مشاهدة طيلة سنوات عرضه. يتمثل إبداع العاملين على البرنامج في تقبلهم الأفكار من الجميع، وطرقهم ما لا يقترب منه غيرهم، وضغطهم على مكامن الوجع. يؤكد ذلك أن الكثير مما عرض في حلقات البرنامج ثبت صحته، بل وانكشفت بعده أمور أكبر.
الجرأة في الطرح كانت أكثر مميزات البرنامج. كان الناس لا يستطيعون أن يناقشوا أشخاصا بعينهم أو ينتقدوا مؤسسات عامة، لكن مجموعة العمل فعلت، وفتحت الباب لكشف المزيد، وألغت كل الحصانات الوهمية التي أحاط أشخاص ومؤسسات أنفسهم بها. فوجدنا النقد يطال الجميع، خصوصاً بعد أن تكشفت أمور لم يكن أحد يتوقعها.
لم يكن من مضامين البرنامج النزعة المبتذلة سوى في إضفاء القالب الكوميدي الذي يضخم الأمور لتكون أكثر جذباً لابتسامة وضحك المتابعين. حتى تلك المحاولات كانت من النوع المحبب، الذي تقبله الناس بأريحية حتى عندما كان ينتقدهم في شخصيات اجتماعية تمثل مناطق المملكة والفروق اللفظية والسلوكية كما في شخصيات "مشبب" و"أبو هزار" و"فؤاد".
بعد أن توقف عرض البرنامج بنجميه الأساسيين ناصر القصبي وعبد الله السدحان كفريق متكامل ومتفاهم، اندلعت حمى محاولة الحصول على موقع "طاش ما طاش" في برامج ما بعد الإفطار. ظهرت برامج مبتذلة تحاول أن تجمع أكبر قدر من اللوحات الكوميدية، ولكن بطريقة تتعمد الإساءة أكثر من القولبة الكوميدية. وكأن معدي الحلقات يحاولون أن يصفوا حساباتهم مع شخصيات أو مكونات مجتمعية أو مؤسسات حكومية وخاصة معينة. فظهر الابتذال في سيرك ما بعد المغرب أكثر وضوحاً، ذلك أنه كان موجوداً، لكن غير متابع بالكثافة نفسها.
اعتمدت برامج أخرى على الشهوانية واستخدام أساليب وشخصيات وأحداث تستميل الجسد وليس الفكر. اختاروا أجمل الممثلات وألبسوهن أكثر الملابس ضيقاً وكشفاً، وربطوا المشاركين في المسلسل بعلاقات غرامية محمومة، واستخدموا ألفاظاً لا تليق ببرامج تعرض بعد أن يكون المسلم قد انتهى للتو من صيام يوم كامل لرضى ربه.
آخرون استمروا في نهج أسلوب طاش، من نقد للمجتمع ومحاولة لكشف العيوب ومعالجة المشاكل التي يواجهها المجتمع. حاولوا أن يحيطوا بكل صغيرة وكبيرة من أحداث عام كامل. تمكن البعض من البقاء ضمن قائمة المشاهدة اليومية اعتماداً على الشخصيات المحببة التي يريد الجمهور أن يراها، واعتماداً على التقليل من شأن البرامج الأخرى وتتبع سقطاتها سواء في تقليد الأشخاص أو المقدمات "الرخيصة" شكلاً ومضموناً. لكنها استمرت في استخدام شخصيات تجاوزها الزمن ولم تعد صالحة بسبب الرتابة المؤدية لملل المشاهد.
يبقى التلفزيون السعودي صاحب السبق دائماً في تقديم البرامج، فطاش كان من رحم التلفزيون السعودي، ومناحي من منتجاته الأساسية، وغشمشم بدأ خطواته الأولى على درج تلفزيون الرياض. ولهذا نجد البرامج تذهب للقنوات التجارية مروراً من تلفزيوننا الحبيب، الذي يقدم برنامجاً مميزاً هذا العام، وآخر أقل تميزاً.
معاناة التلفزيون ستظهر مرة أخرى بعد أن تشتري إحدى القنوات برامجه التمثيلية المميزة، ليستمر البحث عن بديل. السبب الرئيس هو عدم قدرة التلفزيون على منافسة القنوات التجارية لأسباب نعلمها جميعاً خصوصاً هيئة الإذاعة والتلفزيون.
لكن العودة لكل البرامج المعروضة لهذا العام تذكرني بأن الساحة افتقدت شخصيتين لم تكن ميزتهما في العمل الدرامي فقط، بل وفي الاختيار الموفق للمحتوى الذي يجذب المشاهد السعودي. أمر لم يتمكن القصبي والسدحان من الاستمرار في تحقيقه رغم تعاونهما مع نجمين يحملان المزايا نفسها، وقدما معاً مسلسلات ومسرحيات لا تزال تسكن ذاكرة كل المشاهدين في خليجنا العربي. فهل من عودة لثنائي ناصر وعبد الله؟.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي