أين دوائي؟

كنت أبحث عن أخي أيام شهر رمضان وفي الظهيرة ـــ خصوصاً ـــ، وعند سؤالي عن مكانه يرد بالعبارة نفسها ''كنت في المستشفى أصرف علاجا''. ليس من كثر ما يصرفه من العلاج ولكن بعد مساءلة، اكتشفت أنه يذهب كل مرة فلا يجد ما يبحث عنه. يضطر عندها للذهاب مرة أخرى. يبعد المستشفى نحو 20 كيلومترا عن منزل أخي. والأكيد أن هناك من يضطرون لقطع مسافات أطول.
لا أدري ما المتعة التي يشعر بها موظفو الصيدلية وهم يسوفون، ويبعثون الناس إلى بيوتهم خالي الوفاض كل مرة. كيف يمكن أن تهون عليهم خطى من يأتون مراراً وهم من كبار السن الذين يعانون أمراضاً لا يمكن الشفاء منها. أشخاص يحتاجون إلى العلاج، ويقفون في صفوف المستشفيات كل يوم، وليس هناك من يتعامل مع معاناتهم أو ينظِّم عملية حصولهم على العلاج.
اشتكى وزير الصحة من أن الصرف على الأدوية يرهق ميزانية الوزارة التي تجاوزت 240 مليار ريال العام المالي الحالي. ولو قارنا ميزانيات الصحة في دول العالم لوجدنا أن وزارة الصحة والقطاعات الصحية في الدولة تحظى بواحدة من أعلى نسب التغطية للمواطن. تصرف الدولة في سبيل صحة كل مواطن مبالغ هائلة، لكن المواطن لا يشاهد أياً من ذلك في مستشفياتنا المهترئة، وخدماتنا السيئة، وطوابيرنا التي لا تنتهي، وخصوصاً أمام الصيدليات.
كتبت وكتب غيري من المختصين عن أهمية أن يطبق نظام التأمين الصحي على كل المواطنين، ويعتق الناس من ظلم وعدم كفاءة الخدمات التي تزداد سوءاً مع ارتفاع الميزانيات المرصودة. لكن يبدو أنه لن يقوم جهاز مثل وزارة الصحة بالتخلي عن حقه الذي حصل عليه دون مقاومة، وهي طبيعة بشرية. هذا يستدعي أن يأتي الحل من خارج وزارة الصحة، بمعنى أن يصدر قرار وينفذ دون الرجوع للوزارة، مثله مثل قرارات التعامل مع الكوارث والمصائب التي تتسبب فيها القطاعات الحكومية، وما سيول جدة منا ببعيد. القرار الذي يتخذ سيقلل من صلاحيات الوزارة، وقد يحولها إلى جهة منظمة ومتابعة ومشرعة ''أحياناً ''، كما هو في أغلب دول العالم، والمتقدم منها خاصة.
لكن فيما يخص مجال الأدوية، وهو مجال يمكن أن يحدث فيه فرق كبير عندما نتعامل مع الأمر بطريقة إدارية صحيحة تركز على النتائج النهائية، وليس على ما يمكن أن تخسره الوزارة أو موظفوها من ''برستيج''، توصيل الأدوية للأقارب والأصحاب. وبغض النظر عن عدم إمكانية تحقيق رقابة فاعلة على توزيع الأدوية، وهو ما يوجد الفرصة للفساد والسوق السوداء في المجال ــــ لا سمح الله ــــ. في هذا المجال لدينا تجارب عالمية وخبرة يمكن أن نستفيد منها، ونعود لتأكيد أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها.
تحدثت في مقال سابق عن تجارب مهمة في مجال تأمين الدواء للمواطنين. الأولى هي تجربة الولايات المتحدة من خلال برنامجي Medicare وMedicaid. هذان البرنامجان وتعديلاتهما يحظيان بأغلب النقاش في الكونجرس والانتخابات والشارع الأمريكي. يهتم البرنامجان بكبار السن الذين يعانون أمراضا دائمة والمواطنين من ذوي الدخل المحدود. تلتزم الدولة من خلال البرنامجين بتقديم الخدمات العلاجية والدواء لكل المحتاجين، بل إن من يعتبرون من ذوي الدخل العالي يحصلون على تعويض عن كل مبلغ يدفعونه أكثر من 1200 ريال على الأدوية في السنة بغض النظر عن مستوى دخلهم.
تطبق السويد نظاما آخر، فعندما يتجاوز ما يدفعه المواطن مبلغا يعادل ألف ريال في السنة، يصبح كل دواء مجانيا. كما تدفع الدولة تكاليف المستشفيات وعيادات الأطباء التي تتجاوز ما يعادل 390 ريالا في السنة. ترتبط جميع الصيدليات العامة والخاصة بنظام حاسب آلي يحتوي على معلومات جميع المواطنين والأدوية التي يستخدمونها وأوقات الصرف والكميات المصروفة والمستحقة.
يعد النظام الفرنسي من أقوى أنظمة خدمة المرضى الذين يعانون أمراضا مزمنة أو مستعصية. تدفع الدولة تكاليف العلاج والدواء بالكامل من خلال نظام يعوض المواطن عن كل المبالغ التي يصرفها على الدواء.
إن كفاءة وقدرة المسؤولين في وزارة الصحة، وسعة اطلاعهم لا بد أن توصلهم إلى قناعة بأن الأسلوب المعتمد حالياً معوق ومسيء للوزارة وللمواطن، ويدفع الجميع نحو اعتماد أساليب غير علمية وغير قانونية في الحصول على الدواء، بل يتيح الفرصة للتلاعب والفساد ليأخذ فرصته، بل يسمح أيضا بتجاوزات من أشخاص خارج منظومة الوزارة لاستغلال الثغرات لتحقيق مكاسب غير مشروعة.
يمكن للوزارة أن تعتمد برنامج حاسب آلي متطور لرصد جميع المصابين بالأمراض المستعصية والمزمنة، وتمكينهم من الحصول على العلاج من أي صيدلية من المنتشرة في المملكة. يتمكن المريض من الحصول على الدواء الذي يستحقه، ونتخلص من الواسطات والمحسوبيات وطوابير الانتظار، ونضمن أن هناك رقابة ومتابعة من قبل جهات الاختصاص. وهو أمر ليس بالصعب ومطبق في دول كثيرة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي