رحل.. خادم فقراء إفريقيا

في نهاية شهر رمضان اتصل بي شقيقي يخبرني عن رؤية رآها في المنام، وقد حاول الاتصال بعدد من مفسري الأحلام ولم يرد عليه أحد، وقد رأى فيما يرى النائم أنه كان يتأمل شمسا كبيرة ساطعة تتوسط كبد السماء وفجأة أحاط بها بين ذراعيه طائر أسود كبير فأخفى ربعها تماما وأصبحت الشمس لا يرى إلا ثلاثة أرباعها، وقد عرضت رؤيته على مفسر أحلام فقال والله أعلم يموت رجل صالح يبكيه ربع أهل الأرض ويحزنون جميعا على موته، وأخبرت شقيقي بتفسير رؤياه ونسيت الأمر، وحين قرأت اليوم خبر رحيل الدكتور عبد الرحمن السميط ــــ رحمه الله ــــ أدركت صدق تفسير هذا المفسر، فقد بحثت في ''جوجل'' عن نسبة المسلمين بالنسبة لسكان الأرض فوجدتهم نحو 25 في المائة أي ربع سكان الأرض فسبحان الله العظيم.
فمن هو هذا الرجل الصالح ولا نزكيه على الله تعالى الذي يبكيه المسلمون كافة بكل طوائفهم ومذاهبهم وأحزابهم المختلفة؟!
من هو هذا الرجل الصالح، ولا نزكيه على الله تعالى، الذي اجتمع ربع سكان الأرض على محبته والدعاء له والحزن الثقيل على رحيله؟!
من هو هذا الرجل الصالح الذي كان يعتبر نفسه خادم فقراء إفريقيا ويسعد بهذه التسميه بدلا من لقب ''دكتور''؟!
ولد الدكتور عبد الرحمن حمود السميط رئيس مجلس إدارة جمعية العون المباشر ''مسلمي إفريقيا سابقا'' في الكويت عام 1947، ويحكي المقربون منه أنه بدأ العمل الخيري وأعمال البر منذ صغره، ففي المرحلة الثانوية أراد مع بعض أصدقائه أن يقوموا بعمل تطوعي، فقاموا بجمع مبلغ من المال من مصروفهم اليومي واشتروا سيارة، وكان يقوم أحد أفراد المجموعة بعد انتهاء دوامه بنقل العمال البسطاء إلى أماكن عملهم أو إلى بيوتهم دون مقابل.
تخرج في جامعة بغداد بعد أن حصل على بكالوريوس الطب والجراحة، وفي الجامعة كان يخصص الجزء الأكبر من مصروفه لشراء الكتيبات الإسلامية؛ ليقوم بتوزيعها على المساجد، وعندما حصل على منحة دراسية قدرها 42 دينارًا، كان لا يأكل إلا وجبة واحدة وكان يستكثر على نفسه أن ينام على سرير رغم أن ثمنه لا يتجاوز دينارين، معتبرًا ذلك نوعًا من الرفاهية.
شاء له الله تعالى أن يسافر إلى إفريقيا لبناء مسجد لإحدى المحسنات الكويتيات في ملاوي، فرأى هناك ملايين البشر يقتلهم الجوع والفقر والجهل والتخلف والمرض، وشاهد وقوع المسلمين تحت وطأة المنصرين الذين يقدمون إليهم الفتات والتعليم لأبنائهم في مدارسهم التنصيرية، ومن ثم فقد وقع حب هذه البقعة في قلبه ووجدانه وسيطرت على تفكيره.
وكان أكثر ما يؤثر في السميط إلى حد البكاء حينما يذهب إلى منطقة ويدخل بعض أبنائها في الإسلام ثم يصرخون ويبكون على آبائهم وأمهاتهم الذين ماتوا على غير الإسلام، وهم يسألون: أين أنتم يا مسلمون؟ ولماذا تأخرتم عنا كل هذه السنين؟ كانت هذه الكلمات تجعله يبكي بمرارة، ويشعر بجزء من المسؤولية تجاه هؤلاء الذين ماتوا على الكفر.
يقول الدكتور السميط بصدق يجعلنا نخجل كثيرًا من طموحه وعدم يأسه:
''منذ سنوات قادني حب الاستطلاع لزيارة قرية نائية اسمها ''مكة'' في إفريقيا، ثم بدأت بحثًا علميًا موسعًا عن قبيلة الأنتيمور ذات الأصول العربية الحجازية وهي نموذج من العرب والمسلمين الضائعين في إفريقيا.. مثلهم قبيلة الغبرا في شمال كينيا، والبورانا في جنوب إثيوبيا، وبعض السكلافا في غرب مدغشقر، والفارمبا في جنوب زيمبابوي وملايين غيرهم.. قد يشتكون الله علينا أننا لم نفعل شيئًا؛ لإنقاذهم من الضلال والشرك وأغلبهم ذوو أصول إسلامية.
قد يقول أحدهم: يبدو أن الدكتور السميط لم يتعرض لعقبات ومصائب تجعله يتراجع عن دعوته، بل إني لأظن الطريق كان مفروشًا له بالورد.. فما الذي يجعله يستمر إن كان قد تعرض لشيء من المحن!
يقول الداعية الدكتور السميط في أحد لقاءاته: عندي عشرات الأمراض من جلطة في القلب مرتين وجلطة في المخ مع شلل قد زال والحمد لله، وارتفاع في ضغط الدم، ومرض السكري وجلطات في الساق، وتخشن في الركبة يمنعني من الصلاة دون كرسي وارتفاع في الكوليسترول، ونزيف في العين وغيرها كثير، كما سجنت مرتين مرة في بغداد عام 1970 وكدت أعدم مرة 1990، عندما اعتقلتني المخابرات العراقية في الكويت، ولم أعرف مصيري، وعذبت في بغداد حتى انتزعوا اللحم من وجهي ويدي وقدمي، ولكنني كنت على يقين من أنني لن أموت إلا في اللحظة التي كتبها الله.
كما تعرض في إفريقيا للاغتيال مرات عديدة من قبل المليشيات المسلحة بسبب حضوره الطاغي في أوساط الفقراء والمحتاجين، كما حاصرته أفعى الكوبرا في موزمبيق وكينيا وملاوي غير مرة لكن الله نجّاه.
أتريد قارئي الكريم أن تعلم السبب الذي دفع بهذا الإنسان المؤمن إلى الحرص الشديد على الدعوة إلى الله تعالى؟
يقول الدكتور: ''من ينقذني من الحساب يوم يشكوني الناس في إفريقيا بأنني لم أسع إلى هدايتهم''.. يقول هذا الكلام رغم أنه قد أسلم على يديه أحد عشر مليون شخص، وبنى 5700 مسجد، وقام بالإشراف على حفر 9500 بئر ارتوازي، وأنشأ 860 مدرسة، وأربع جامعات، و204 مراكز إسلامية، وكان يسلم على يديه يوميا نحو 900 شخص، كما أن عشرات الألوف من قبائل الأنتيمور دخلوا الإسلام على يد الدكتور السميط.
هذه لمحة موجزة عن الدكتور عبد الرحمن السميط الذي رحل بالأمس مغمضا عينيه للأبد ومحلقة روحه الطاهرة إلى بارئها.. كان رجلا بأمّة، بل كان أمة بأكملها تسير على هيئة رجل.
ــــ لم يكن يعشق الوقوف أمام فلاشات الكاميرا وآلات التصوير.. بل كان يعشق رؤية إفريقي ينطق الشهادتين ويدخل في الإسلام ويعتق نفسه من النار بحول الله تعالى.
ــــ لم يعشق الجلوس خلف شاشات الإعلام وإلقاء خطب الاستهلاك الإعلامي.. بل عشق حفنات الغبار وهي تتطاير في لحظة حفر بئر ارتوازي لفقراء إفريقيين قد يحتضرون بسبب شربة ماء!
ــــ لم يعشق المهاترات الإعلامية والدخول في جدال طائفي وإشعال نار الفتنة بين المسلمين والدعوة للإرهاب والعنف والتسلط في الرأي.. بل عشق محاورة إفريقي ضال يبحث عن حقيقة الإيمان في الكون ويسعى إلى الخلاص من قيود الكفر والظلام!
ــــ لم يعشق ''الترزز'' الإعلامي وتصوير نفسه بأعماله الخيرية ونشرها لحظة بلحظة كما يفعل البعض الذين لو أهدوا أرملة سورية قطعة خبز لأهانوا إنسانيتها بالتصوير معها ومع عائلتها والمخيم بأجمعه للبروز الإعلامي، بل كان يعشق العمل بصمت وإتقان واستمرار لأنه ببساطة كان يعمل من أجل الله تعالى!
وأخيرا إليكم هذه المقولة الرائعة التي تكتب بماء الذهب من مقولاته ولعلها تكون نبراسا لكل داعية وإنسان صالح يرغب في السير على طريقه.. ففقراء إفريقيا ينتظرون عبد الرحمن سميط آخر.. قبل أن تتلقفهم بلهفة أيادي المبشرين.
''لا نجاح أبدًا دون فشل، النملة لا تستطيع تسلق الحائط دون أن تسقط أكثر من مرة، والطريق إلى النجاح يمر دائما بمحطات من الفشل، ولا خير فيمن يستسلم في المعركة الأولى''.
رحمك الله يا خادم فقراء إفريقيا وعلى مثلك فلتبك بواكي إفريقيا!.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي