التعويضات يا «كهرباء»

سنحت لي فرصة لقاء مسؤولي شركة الكهرباء في مقر صحيفة ''الاقتصادية'' قبل نحو ثلاثة أشهر. كانت شكوى مسؤولي الشركة تتركز على الاستهلاك غير المنطقي للطاقة. عاب المسؤولون على المواطن تشغيل كل المكيفات واعتماد التكييف المركزي في المباني الجديدة، وعدم العناية بإجراءات العزل التي يجب الاهتمام بها. طالبوا بأن يعدل كود البناء السعودي بما يتوافق مع الإشكال الذي تعانيه الشركة من جراء الضغط على شبكاتها ومحطاتها.
طالب مسؤولو الشركة وقتها بأن تكون هناك إعادة لتسعير التيار لضمان ترشيد الاستهلاك، الذي لا يرى النور بسبب انخفاض تكلفة الكيلووات ساعة. مثل هذه الأطروحات التي نقرؤها باستمرار ونشاهد المطالبات بها تعتبر مشروعة. خصوصاً أن ما نعانيه اليوم من عدم انضباط في الاستهلاك يعود بدرجة كبيرة إلى انعدام حس المسؤولية.
لكن الأكيد هو أن ''الجيب'' عندما يتأثر فإن الإنسان يتفاعل معه. المطالبات التي تعتمد على الحس الوطني والوعي الاجتماعي والنواحي الأخلاقية والمسؤولية الذاتية ليست بالتي تحقق النتائج عند أكثر من 80 في المائة من الناس. إذاً فكل الإعلانات والتوجيهات والأفكار التي نشاهدها في وسائل الإعلام لن تجدي ما لم تكن هناك إعادة للتسعير، خصوصاً لمن يستهلكون التيار بشكل غير مقبول، وهم كثر.
أنا مع المواطن البسيط الذي يستهلك كفايته من التيار ويسيطر على سلوك أفراد أسرته، ولهذا أطالب ببقاء التسعيرة بالنسبة إلى الفئات الدنيا ويمكن أن نربط ذلك بالوقت من العام وحجم المنشأة. مع رفع التسعيرة بشكل يتوازى مع حجم الاستهلاك بشكل يؤدي غرض الشركة من مطالبتها بالحد من الاستهلاك.
أما وقد وقفت في صف الشركة في الجزء الأول، فإنني أعود معاتباً وناقداً ومتأسفاً لما يحدث هذه الأيام. أن ينقطع التيار في مدينة الرياض أو جدة أو مكة المكرمة أو غيرها من المدن التي تصل الحرارة فيها حداً يدفع الناس للاستلقاء أو الجلوس أمام جهاز التكييف، فذاك لعمري مشكلة حقيقية.
تستمر الشركة في إنفاق مبالغ خيالية من خلال خطتها الطموحة التي تصل تكلفتها أكثر من 100 مليار ريال بهدف تحديث الشبكات والمحطات. ترفض الشركة أن تسمح بتوليد التيار من قبل شركات أخرى، بدعوى أن ذلك من قبيل حبها وحرصها على الشركات التي تريد أن ''تغامر'' في مجال غير مربح. لا بد أن نذكر أن أي شركة تتوجه نحو الاستثمار في مجال معين، فهي تفعل ذلك بعد تنفيذ دراسات الجدوى، وتعرف مدخلها ومخرجها.
إن انشغال الشركة بعمليات التوليد وإدارة الشبكات هو ما يعرف بالاحتكار. هذا الاحتكار يؤدي ''بالضرورة'' إلى إفقاد القطاع قدرته على تقديم خدمة أفضل، بل إن الشركة ليست قادرة على تحقيق طموحها برغم القروض التي تحصل عليها والسندات التي تصدرها، لأن الشكوى من تردي الخدمة مستمرة.
هنا أدعو مجلس إدارة الشركة لإعادة النظر في قضية السماح لشركات أخرى بالتوليد، وشراء الكميات المنتجة من هذه الشركات بسعر التكلفة على شركة الكهرباء، ليس لشيء سوى تمكين الشركة السعودية للكهرباء من التفرغ لإدارة الشبكة وهي مهمة كبرى في بلد يعتبر قارة. هذا يسقط من على كاهل الشركة جزءا كبيرا من المسؤولية، ويمكن تطويره بحيث تستلم شركات عمليات إدارة المقسمات وضمان صيانتها وكفاءة عملها، تحت رعاية الشركة التي تمثل الحكومة النسبة الكبرى في رأسمالها.
يمكن أن تستفيد الشركة في هذا الإطار من خبرة شركة أرامكو السعودية. حيث تتبنى الشركة المستثمرين الصغار وتدعمهم ليصبحوا منتجين كبارا للطاقة. على أن هذا يعني أن تتوقف الشركة من إجراءاتها غير المجدية التي تنوي من خلالها تملك شركة تابعة تقوم بمهمة التوليد.
نعود إلى إشكالية الانقطاعات المستمرة، خصوصاً في فصل الصيف، وعندما يستطيع أي إنسان أن يبرر انقطاع التيار في المدينة المنورة أو الدمام أو تبوك، فلن يكون تبرير انقطاع التيار في منطقة عسير، خصوصاً المناطق الجبلية التي لا يحتاج سكانها إلى المكيفات ''وهي المستهلك الأكبر للتيار''، مقبولاً. فكيف إذا كان انقطاع التيار يومياً ولمدد من ساعة إلى أربع ساعات؟ سألت عن الأسباب وكل يوم يبدع مسؤولو الشركة هنا سبباً جديداً، فيوم تصدم سيارة محطة فرعية، ومرة ''يضرب'' خط كهربائي، وثالثة يكون السبب صاعقة، لكن التيار ينقطع في كل الأحوال، ما يذكرني بالدول التي توزع التيار على المدن بالساعات.
أذكر أن والدتي - رحمها الله - اعتمدت في التنفس على جهاز توليد الأوكسجين الكهربائي. كان البيت يتحول إلى حالة طوارئ عندما ينقطع التيار ويحبس الجميع أنفاسهم بانتظار عودته ليشحن الجهاز الذي يمكن استخدامه لفترة قصيرة دون الاعتماد على الكهرباء. يوم الجمعة الماضي انقطع التيار أكثر من 12 مرة في اليوم نفسه، راوحت بين ثوان وأربع ساعات. ولكم أن تتخيلوا أثر ذلك في المحتاجين إلى التيار لحياتهم والأجهزة التي تتأثر بانقطاع وعودة التيار.
الأمر الذي ما يزال يشغلني هنا هو دور هيئة تنظيم الطاقة الكهربائية، وهل لها من صلاحيات على الشركة؟ أذكر أن الرئيس التنفيذي للشركة في لقاء ''الاقتصادية'' تجاوز قضية تعويض المتضررين من انقطاع التيار الكهربائي. ولهذا أعود للمطالبة بتعويض الناس عندما يواجهون هذه الإشكالية.
العقد بيني وبين الشركة هو لتوفير الطاقة باستمرار مقابل دفع مبلغ مالي. فإذا أخل أحد طرفي العقد بالجزء الذي يخصه فهو تحت طائلة العقاب. فمثلاً لو أنني لم أسدد فاتورة الكهرباء لفترتين متتاليتين، فإن الشركة ستقوم بفصل التيار الكهربائي حتى ولو كنت ملتزماً بالتسديد لعشرين سنة، ويعتبر هذا حقها النظامي.
لكن عندما تخل الشركة بالجزء الذي يخصها وهو توفير التيار بشكل مستمر، فليس هناك من يعاقبها. يمكن أن تتأثر حياة الناس والشركات وأجهزة الحاسب الآلي والمواد الغذائية وأنظمة التكييف وغيرها بانقطاع التيار.. فأين الهيئة من تغريم الشركة؟
أظن أن أسهل وسيلة هي وضع معادلة بسيطة يتم من خلالها حسم حجم الخسارة الناجمة عن انقطاع التيار من قيمة الفاتورة القادمة، والسماح للمواطن بمقاضاة الشركة عندما تكون الخسارة أفدح. فما رأي الهيئة أو الشركة؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي