رحلة بين مطبين
الشكوى من المطبات قديمة قدم الإنسان، منها مجازي كاللساني والسلوكي، ومنها ما هو حقيقي كالمطبات الهوائية. أبرز العصر الحاضر مخاطر جمة للمطبات، وهمِّي هنا هو المطبات الأسفلتية التي تحاصر سائقي السيارات حيث ذهبوا.
حارب الناس المطبات كجزء من البحث عن الراحة أو الأمن أو الحرية. نجح الكثيرون في التخلص من مطبات الأسفلت، وبقي أمثالي يعانونها يومياً. حاولنا أن نحث صانعي المطبات ومهندسيها بأن يرأفوا بحالنا، بل يحسنوا إلى مركباتنا بتقليل تلك الكتل الأسفلتية التي يفتخر كل واحد منهم أنه صممها أو وزعها، عندنا فقط. أما في دول أخرى فقد أصبح غياب المطب عنواناً للتقدم الحضاري، وأنا من مناصري هذا الرأي.
يستخدم المطب من لا يستطيع أن يدفع السائقين للالتزام بالسرعة المحددة إلا بهذه الوسيلة المتحجرة الشكل، الباردة الإحساس، والقاتلة لمحاور السيارات وأنظمة امتصاص الصدمات، حتى إن أبرز منتجينا في العربات كان يضع أهم مواصفة حققها وهي القدرة الفائقة في تجاوز الحواجز العمودية، وذلكم هو اسم أنيق للمطبات.
القدرة على ضمان الالتزام بالسرعات المحددة مربوط بتكوين بيئة قيادة راقية منضبطة تحترم القوانين عندما لا تكون عيون "ساهر" تراقبها، فكيف كونت دول كثيرة تلك البيئة الراقية، ولم يتمكن جهاز مرورنا الكريم من إنتاجها؟ سؤال يستمر في مطاردتي كلما رأيت شابين ينظر كل منهما للآخر استعداداً لـ "مقاوم". أتذكره عندما أشاهد شارعاً في حيِّنا يزدحم جانباه بمراقبي عمليات "التفحيط" و"السلاسل" و"الخمسات" وما إليها من فنون مخالفة القانون علانية. أسترجعه كلما رأيت سيارة الشرطة تطارد شباباً في شارعنا ثم تتوه عنهم وكأنهم يمارسون لعبة القط والفأر، لكن دون أن تنتهي اللعبة بمعلومة مفيدة أو قبض على متهم أو رقابة على أحد، مجرد مطاردة لا طائل من ورائها.
يقول الكثير من المتشائمين إن هذا شعب لا حيلة فيه ولن يتعدل مهما وضع عليه من الرقابة والعقاب. لكنني أقول دائماً ما هو العقاب الذي طبق في حق مذنب؟ البشر يميلون إلى كسر النظام ما دام ذلك ممكناً، وأذكر دائماً بالأجانب الذين يأتون منضبطين متمسكين بالأنظمة، ثم ما تلبث أن ترى الواحد منهم يعيث في الشوارع ويغير المسار دون تنبيه ويتجاوز بشكل خطير ويضايق كل من حوله، إنها البيئة التي تصنع الناس.
هل سمعنا مثلا بوزير نال مخالفة؟ كما يحدث في كل دول العالم. هل سمعنا بمسؤول أياً كان موقعه أوقف لتجاوزه إشارة مرورية؟ كما هو مطبق عند خلق الله كلهم. ألم يكتب أحدهم في تعميم له على الدوريات بأن يراعوا أصحاب الفضيلة والمعالي والسعادة ولا يخالفوهم احتراماً لمقاماتهم "السامقة"، فإن لم يحترم الرجل مقامه فلماذا أحترمه أنا أيها الجندي الواقف في هجير الشمس؟
إذا نعود مرجعنا الأول الذي يطالب به كل منا، وهو السيدة عدالة التي تعصب عينيها حتى لا تحابي من أمامها لجماله أو ماله أو سلطانه.
سافرت للتو، واكتشفت أن شكوى الناس التي كانت بسبب إزعاج المطب لهم أثناء القيادة تحولت بجهود وفكر وألمعية مهندسينا الكرام إلى تدمير السيارات "حرفياً". لقد اكتشفت في الهجر والمراكز المنتشرة على خط سيري أن البلديات تتفنن في رفع مستوى المطب، وإخفائه عن السائق بحيث لا يتوقعه، بل إنها تعمد إلى وضع تلك اللوحة القبيحة "انتبه أمامك مطبات صناعية" قبل المطب بعشرين مترا، وهو سبق أحسبه لبلدية "طريب" التي حصلت على المركز الثاني في عدد المطبات على الطريق المؤدي من الرياض إلى أبها وسأذكر النتائج في نهاية المقال.
أستطيع أن أشهد بأن من يقر تركيب تلك المطبات هو في الواقع مالك لورشة في الصناعية. كنت ومعي ابني نراقب السيارات أمامنا ولا نستطيع أن نسير دون "دليل" في ذلك الطريق حتى نشاهد متى يصل إلى المطب لنتفاداه. تلك كانت الوسيلة الوحيدة. قد يقول قائل إن هذا السلوك مبرر بسبب الرغبة في حماية المشاة الذين يعبرون الشارع، وذاك لعمري عذر قبيح، فليس من المنطق أن تخفي المطب عن الناس لتحمي المشاة.
ثم لماذا تمر الطرق السريعة وسط المراكز والمحافظات والقرى، ولماذا تضع القطاعات كل إداراتها على الطريق السريع الذي يقترض أن يمر من جانب المراكز السكانية وليس وسطها.
كانت الرحلة قطعة من التعريف بالسياحة الداخلية والتنفير منها في الوقت نفسه. فكل محافظة تمر بها تعطيك الانطباع بأنها لا تريد أن تراك مجدداً، فمحافظة حفرت شارعها الرئيس الذي هو الطريق السريع عندما أتى موسم الصيف والاصطياف وقرر أبناء المملكة ودول الخليج أن يزوروا المصايف. وأخرى وضعت أكثر من خمس إشارات مرورية لا يتجاوز بعد الواحدة عن الأخرى مئتي متر. وثالثة تضع فترة انتظار اللون الأخضر لأكثر من دقيقة ونصف في شارع لا تعبره أكثر من عشر سيارات في الدقيقة.
لكن بطل الرحلة كان المطب الذي تفننت المراكز في وضعه على الطريق، فمركز يقال له "خيران" وضع أكثر من خمسة مطبات من النوع الحاد وأمام كل مطب لوحة تشير إلى وجود إفطار صائم، ولو أخذوا أجر المسافر لكان أولى، خصوصاً أن دعوته مستجابة. وقد حصل على المركز الثالث في عدد المطبات مع أن موقعه لا يغطي 500 متر من الطريق "السريع".
أما الفائز الأول في منافسة المطبات فقد كانت "تندحة"، حيث تكرمت البلدية بحماية المواطنين من خلال "حشر" عشرة مطبات في مسافة لا تتجاوز ألف متر. كما كان لها قصب السبق في وضع المطبات من دون علامات إرشادية أو تحذيرية، بل في مواقع لا يمكن التخمين بها، في الليل خصوصاً. خدمت البلدية المواطن بإنشاء ورش إصلاح السيارات على جانبي الطريق، وهو أمر تشكر عليه.
بدأت رحلتي بتجاوز آخر مطب في المدينة ومررت بأكثر من سبعين مطبا، وعرفت أنني وصلت وجهتي عندما تجاوزت آخر مطب يبعد مئتي متر عن بيتي. يذكرني هذا التنافس بالنكتة التي تقول إنه لا يوجد في مدينة طوكيو سوى مطب واحد موجود أمام السفارة السعودية.