عندما تنتهي حفلات التوديع

تقيم كل الجهات الحكومية حفلات توديع منسوبيها المتقاعدين خلال شهر رجب وقبله، هذا لأولئك الذين ولدوا جميعا في اليوم نفسه وهو 1/7. هذه الظاهرة ستختفي تدريجياً مع ظهور جيل شهادات الميلاد والقابلات وغرف الولادة. أذكر أن إحدى أساطير قريتنا تحكي قصة امرأة أنجبت طفلة شعرت بمخاضها وهي متجهة إلى السوق. فانتخبت مكاناً مخفياً عن أعين الناس، وأنجبت ابنتها وغسلتها وقطعت حبلها السري، ونظفت نفسها، وأكملت رحلتها نحو السوق. سميت البنت "سويقة" بسبب حادثة ولادتها. هذه القصة خارج السياق ولكنني تذكرتها وأنا أكتب.
عاش ذلك الجيل شظف عيش لا يمكن أن يتخيله شباب اليوم. استطاع أن ينجو من الفقر والجهل وقسوة المناخ ومتطلبات الحياة، فله الإشادة والمحبة، وحين نكرم اليوم من يتقاعدون من أبنائهم، فنحن نكرم التاريخ والكفاح الذي شارك به هؤلاء الذين نالهم رزق وخير لم ينل آباءهم، ويحظى أبناؤهم اليوم بكم أكبر من المزايا دون أن يقدموا معشار ما قدمه الأوائل.
تكريم كهذا منتشر ومعروف، ولكن ما جذبني هو توديع يتبناه الشيخ محمد بن راشد وهو يتحدث عن الحكومة الذكية. ولعلم القارئ الكريم، الحكومة الذكية هي ما بعد الحكومة الإلكترونية. ذكر رئيس مجلس وزراء الإمارات أنه اجتمع مع ألف من قيادات الصف الأول والثاني والثالث في الحكومة ودعاهم جميعاً لتبني مفاهيم الحكومة الذكية التي تخدم المواطن وهو في بيته من خلال هاتفه الذكي، وتقدم له ما يحتاج في الوقت الذي يحتاجه.
لا نريد أن يتكبد المواطن عناء الحضور إلينا، سنذهب نحن إليه. فإن كان يعرف حقوقه، كان بها، وإلا فسنعرفه نحن عليها. المهم هنا هو أن يحصل كل مواطن على حقه دون زيادة أو نقص. هذا يعني أن أي مواطن حصل على أكثر من حقه فسيطلب منه أن يتوجه إلى الدولة التي ستستعيد حق المواطن الآخر دون أن يطالب المظلوم بحقه، هل فهمتم شيئا؟ أظن أن أي واحد منا سيحتاج إلى جلسة هادئة ليفهم هذا المنظور المختلف للأمور.
أين يمكن أن يكون هناك من يمنحني قطعة أرض دون معروض وواسطات وانتظار لأرض في "قلعة وادرين"؟ هل يمكن أن يبني لي أحد بيتا ويقدم لي صك ملكيته دون أن أراجع البنك العقاري والبنك التجاري والبنك "الصابوني"، وأقف في طوابير أشاهد الناس تمر من جانبي دون أن أصل "أنا" إلى مبتغاي؟ كيف يمكن أن يحصل ابني على فرصته في التخصص الذي يستحقه في الجامعة أو الكلية العسكرية دون أن تتدخل الفيتامينات من الواو إلى الدال إلى "شيبة اللال"، فقط لمجرد أن علاماته الدراسية تعطيه هذا الحق ؟ ثم سيأتيني "إيميل" يقول نبارك لك حصولك على الوظيفة التي تقدمت لها خلال شهر واحد؟ نعم تلكم هي الحكومة الذكية.
نعود إلى حفلات التوديع. لقد توعد الشيخ محمد بن راشد من يتلكأون في تطبيق الحكومة الذكية بحفل توديع يعطيهم الحق في الاستفادة من حقوقهم التقاعدية من اليوم الأول بفضل الحكومة الذكية التي تنهي إجراءاتهم سريعاً. هل لاحظت عزيزي القارئ شيء؟ إنه القرار الذي يضع من يتخلف عن التطبيق تحت طائلة عقوبة مناسبة. فكم من قرار ونظام صدر ولم ينفذ بل وتبجح البعض بشتم النظام أو القرار علاوة على عدم التنفيذ. لقد أمن هؤلاء العقوبة، فشتموا النظام.
إن صدور الأنظمة من الأمور السهلة، بل إن المداولات قد لا تتجاوز الأشهر، لكن غياب المنظومة المتكاملة التي تُخضِع كل أصحاب العلاقة للنظام وتلزمهم بتطبيقه، هي السبب الأول في عدم رؤيتنا الكثير من الأنظمة والقوانين والمشاريع على أرض الواقع ليستفيد منها المواطن وتساهم في رفع مستوى الدولة عموما.
تذكرت أننا بحاجة لحفلات توديع تجوب البلاد وتسيطر على صفحات الجرائد وبرامج قنوات "القبيلة". أول حفل توديع سيكون لمن لم يطبقوا قرار الحكومة الإلكترونية الذي أعطى كل الجهات الحكومية مهلة إلى عام 2007 لتعديل كل أعمالها للتحول إلى الحوسبة. فكل مكتب يحوي ملفا أخضر أو آلة تصوير مستندات أو جهاز فاكس أو حتى مسمى ناسخ آلة سيكون مقدما لحفل التوديع أعلاه. وقبل أن أسترسل في سرد حفلات التوديع اكتشفت أمراً مهماً.
حفلات التوديع الخاصة بمشروع "يسر" والتعاملات الإلكترونية، إن قدر لها أن تقام فسيكون أمامها عائق مهم، وهو أن جل إن لم يكن كل وزارات وهيئات ومؤسسات الدولة ستقيم حفلات التوديع هذه. ليأتي صباح اليوم التالي فلا نجد أحداً على مكتبه، ويسود الاعتقاد أن الحكومة تجاوزت مرحلة التعاملات الإلكترونية لتتحول إلى ذكية في لمح البصر، وهو انطباع قد يؤدي إلى ذهاب الناس لبيوتهم لينتظروا أن تحضر إليهم قروضهم ومساكنهم وإشعارات قبول أبنائهم وقرارات تعيينهم، بدل الوقوف بانتظار حضور من كرموهم الليلة الفائتة.
على هذا النحو لن نجد من يقوم بعملية شراء الذبائح والتعاقد مع القاعات وجمع "القطات" لأن الجميع سيكونون من المكرمين. ونصل في النهاية إلى فراغ "دستوري" سببه أن الجميع مكرمون ولن يكون هناك أحد يقوم بعملية التوديع، وقد يتفتق ذهن أحدهم باقتراح إنشاء "وزارة التوديع"، لنتورط في كيفية توديع وزيرها وموظفيها، ثم نقول "ليتنا من حجنا سالمين".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي