استثمار الموهوبين .. الجهود لا تكفي

قبل عامين تقريبا تمكن ثلاثة من الأحداث المراهقين من الفرار من دار الملاحظة في المدينة المنورة، بعد أن أودعوا فيها لقضاء أحكام مختلفة بالسجن، نتيجة تورطهم في عدد من الحوادث وجرائم السرقة التي نفذت بطرق غامضة، وأوردت الصحف حينها جوانب خفية في حياة اللصوص الصغار، تبين من خلالها تمتعهم بقدرات عالية في التخطيط والتنفيذ، وسرعة البديهة والتعامل مع المواقف الصعبة، بما يفوق أقرانهم بمراحل، وزاد على ذلك تسربهم من الدراسة مبكرا ليختاروا طريق الانحراف والضياع.
والسؤال الملح: لماذا اختار هؤلاء الأحداث أصحاب القدرات المتميزة ذلك الطريق المشؤوم؟ هل كان برغبتهم؟ أم هم ضحايا ظروف مجهولة؟
إن معاناة هؤلاء الشباب التي دفعتهم إلى عالم الانحراف ليست سوى صورة من عشرات الصور لمعاناة آلاف الموهوبين في مجتمعات شتى، لم تستثمر القدرات الكامنة لأبنائها والمواهب الخارقة التي أودعها الخالق في بعض من خلقه.
فالموهوبون من أهم وأخطر الشرائح في المجتمع، وثروة بشرية لا يقتصر وجودهم على مجتمع دون آخر، مهما اختلفت ديانته، أو تركيبته الاجتماعية، أو أحواله المعيشية والمادية. إذ تشير الدراسات إلى أن نسبة الموهوبين في كل مجتمع تراوح بين 3 و5 في المائة، وأن من بين كل ألف طفل هناك 50 طفلا موهوبا تقريبا. لكن المؤلم أن هذه الفئة تحولت في بعض المجتمعات إلى قنابل موقوتة ورموز لعصابات الشر والإجرام والفساد دون أن تشعر مجتمعاتهم بذلك، نتيجة للتجاهل والكبت والحرمان وافتقارهم إلى الرعاية المؤسساتية الحقيقية، بعكس المجتمعات المتقدمة التي تتلقف الموهوبين في مئات المؤسسات الأهلية والحكومية، وتتعهدهم بالرعاية والاهتمام منذ أعمار مبكرة لتصنع منهم رموزا للنجاح والتفوق في مختلف المجالات العلمية والهندسية والإدارية والرياضية.
وفي مجتمعنا، الذي يقدر حجم موهوبيه بناء على النسب السابقة بما يقارب 250 ألف موهوب وموهوبة، هناك حراك اجتماعي وتربوي في السنوات العشر الأخيرة وتحديدا منذ إنشاء مؤسسة الملك عبد العزيز لرعاية الموهوبين، إلا أنه لا يزال هناك كثير من العوائق للوصول إلى الاستغلال الأمثل لقدرات هذه الفئة، وكانت طموحاتنا قد توقفت عند إنشاء ''مؤسسة الموهوبين'' بينما يستحق الأمر أكثر من مؤسسة، وما زلنا نحتاج إلى مزيد من الطاقات لاستثمارهم، ومواجهة العوائق المتعددة، منها، ضعف الثقافة الأسرية والاجتماعية في التعامل مع الأطفال الموهوبين. وتدني الوعي الكافي بأهمية الموهوب، واكتشاف الطريقة المثلى للتعامل معه، وكثرة الإحباطات الاجتماعية والمثبطات التي يلقاها من المجتمع المحيط من تحقير وتجاهل وتأنيب في الخروج على التفكير النمطي والعادات البالية، وعدم وجود برامج حقيقية كافية لرعاية الموهوبين تقدمها المؤسسات الاجتماعية، وضعف دور المؤسسات التربوية المختلفة في اكتشاف الموهوبين وتنمية مواهبهم، في ظل استغراقها الكامل في التقليدية، وتركيزها على أساليب التحصيل المتمثلة غالبا في الحفظ والتلقين، وافتقارها إلى المناهج المتطورة والبرامج التي تتلاءم مع أصحاب القدرات المختلفة، ما حولها إلى بيئات منفرة وطاردة، والتسرب الدراسي إحدى نتائج ذلك.
إن رعاية الموهوبين وحمايتهم من الانحراف مسؤولية مشتركة لمختلف مؤسسات المجتمع بدءا من الأسرة التي تمثل المحور الأول في التعامل مع الموهوب واكتشاف موهبته، وكلما ازداد وعي الأسرة خاصة الوالدين بمعرفة موهبة الطفل وما يعانيه من تبعات لهذه الموهبة، كان الأمل أكبر في الاستفادة من قدراته وتنميتها بالشكل الصحيح، وعدم تعرضه للإحباط أو الانحراف، ويكتمل هذا الدور بقيام المؤسسات الاجتماعية الأخرى بدورها من مدارس، وجامعات، وجمعيات أهلية وخيرية، ومؤسسات مجتمع مدني ومتخصصين وباحثين، ووسائل إعلام، لتبني هذه المواهب الخارقة وتحويلها إلى مشاريع مثمرة، والتوسع في إنشاء مدارس أو أكاديميات خاصة لرعاية الموهوبين وتنمية مهاراتهم، وتشجيع إنشاء مزيد من الجمعيات والهيئات الأهلية بمشاركة الموسرين المقتدرين من الأفراد والمؤسسات الاقتصادية الأخرى، أما ''مؤسسة الملك عبد العزيز ورجاله'' فهي في حاجة إلى الخروج إلى الميدان وتوسيع خدماتها وإنشاء مزيد من الفروع في مختلف مناطق المملكة وتشجيع مزيد من الأبحاث والدراسات لاكتشاف واقع الموهوبين في المملكة وتحويلهم إلى نماذج مضيئة لخدمة مجتمعهم قبل أن يحولهم الإهمال والتجاهل إلى عصابات للشر والفساد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي