الحكمة تأتي متقدمة

لا تأتي الحكمة متأخرة .. بل متقدمة كثيراً.. لكن الإصغاء إليها هو الذي يأتي متأخراً.. فأرفف مكتبات العالم مليئة بكتب الحكمة والفلسفة وقبلها التعاليم الدينية وأقوال الرسل والأنبياء والمصلحين ومعها شيوخ وكهول نطقوا بالكثير من الحكمة بعدما عركتهم التجارب ومع كل ذلك الزخم من الحكمة المتقدمة نقول تأتي متأخرة!
هل لأن النهم البشري للملذات والمتع والثروة يضلل البصيرة ويسد السمع عنها؟ هل لأن الأمنيات والأحلام بالسطوة أو الجاه تقطع الطريق إليها؟ لقد شغف ''ميداس'' بالذهب إلى حد الهوس، وتمنى لو أن كل ما يلمسه يتحوّل إلى ذهب، ثم أجيب إلى أمنيته، لكنه كاد يهلك من الجوع والعطش لأنه حين مد يده إلى الطعام ليأكل تحوّل إلى ذهب وحين رفع الكأس إلى فمه ليشرب تحوّل إلى ذهب.. وعلى نحو آخر.. استبد حب معرفة العالم بـ ''فاوست'' فرهن عمره للشيطان موفيستو بعقد وقعه بدم إصبعه، إلا أن موفيستو غرر به أعاد إليه شبابه إنما ليحرمه من البقاء مع الفتاة كريشنو التي أحبها بزعم اطلاعه على أسرار العالم.. لم يع فاوست ما آل إليه مصيره إلا بعد فوات الأوان فقد ضاع الحب والعمر معا.
تلكما أسطورتان إغريقية وألمانية من تجليات العقل البشري لكنهما من سحيق الحكمة مثل غيرهما من زاخر الحكم تنزاح عن الوعي كما ينزاح الماء عن صخر الصفا.. لأن الحكمة مثلها مثل براءات الاختراع والابتكار شيء نفيس معطل في المدونات، والحكمة يبقى كذلك قليل جدا مَن يقبض على وهجها ليغمر بها عقله ووجدانه طاقة دفع لوجود أفضل. وهذا يعني أن الحكمة ستظل إغراءً بلاغياً ما لم تتحوّل إلى منهج إجرائي ينقلها من حيز القول إلى حيز الفعل، وعملية النقل هذه هي الاستثمار الذي يقتضي إدارة الحكمة نفسها وفق المنهج الذي يرتبط بمجال هذه الحكمة أو تلك.
الفلسفات والنظريات والاستراتيجيات والأهداف والسياسات انتقلت من حيز القول إلى حيز العمل حين توافر لها المنهج المميز والإدارة الرشيدة.. أما التعثر والكساح فقد أحاق بما تخبط منها في منهج رديء أو إدارة سيئة وبالتالي التفريط في الاستثمار نفسه.
على المستوى الخاص حدث هذا لكثيرين منا.. وعلى المستوى العام كان التعليم في مستواه ونوعيته ومخرجاته قضية تقاذف الملامة فيها جهات التعليم العام والعالي وخطط التنمية منذ عقود، وكان الإسكان منذراً بأزمته قبل عقود أيضا وأسعار الأراضي وتشبيكاتها، وبالمثل كانت أزمة السير وحوادثه وطرقه وقوانينه كرات ملامات كذلك بين المرور ووزارة النقل والبلديات، وكان هيكلنا الاقتصادي وتنويع قاعدته حديثا مزمنا كما كانت جيوش العمالة الوافدة والبطالة والسعودة سجالات سال فيها حبرٌ كثيرٌ وضجيجٌ أكثر، وقلّ مثل ذلك في الصحة والماء والكهرباء.. وفي أغلب الأحوال ينتهي الأمر إلى أن المواطن هو المشكلة.. فهو لا يريد أن يتعلم، ولا يريد أن يعمل، كسول متدني الإنتاجية يبحث عن المنصب والمرتب العالي والإفراط في الاستهلاك والتبذير.. إلخ. لا يكاد يتردد المسؤول والإعلامي عن جعل المواطن مشجباً يعلقان عليه العجز في مواجهة التحدّي الذي وُلد في الأساس من التفريط في الإنصات إلى الحكمة المتقدمة.. ما طرح منها في الإعلام أو في المنتديات والدراسات التي تلفظ أنفاسها بعد النشر وبعد كتابة التوصيات، أو تلك الحكمة الحية المعاشة بلون فاقع لدى الأمم المتقدمة.
فهل كان يضيرنا - مثلا - لو حذونا حذوهم في مناهج التعليم وإدارته؟ وفي معالجة سوق العمل وفي الإسكان وفي خدمات الصحة والماء والكهرباء وفي أنظمة المرور والمواصلات؟ .. لم يكن ذلك قط عسيراً.. فالقوى البشرية الوطنية في سواعدها وعقولها ذات القدرات المميزة عند الآخرين ولدينا القدرة على التمويل ولدينا وطن بمساحة قارة يستحيل أن يعجز عن الإسكان.. ومع ذلك.. ظلت الأزمات تستحكم وتتعقد.. حققنا منجزات وتطوراً واضحين غير أن المطلوب كان وسيظل مبادرات جذرية لا ترهن المستقبل للتوفيقيات والتسويات في المعالجات والحلول، وإنما بالجسارة إلى الذهاب حيث الحكمة المتقدمة فيما نشر وبحث ودرس، وفيما نطنطن به عن البلدان المتقدمة التي نضرب بها المثل ليل نهار.. فقد حق علينا منذ زمن أن نكون نحن أيضا مضرب المثل لكيلا يصدق فينا قول شوقي: (ورب مستمع والقلب في صمم)!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي