مرسي في بلاد «أبو الأعلى المودودي»!

المتابع للعلاقات الباكستانية – المصرية لا بد أن يلاحظ تقلبها ما بين الدفء والبرودة، والود والمرارة، بحسب من يجلس على كرسي السلطة في البلدين. والزيارة التي قام بها الرئيس محمد مرسي أخيرا إلى باكستان (الزيارة الرسمية الأولى لرئيس مصري إلى هذا البلد منذ أكثر من 40 عاما) لا يمكن تصنيفها إلا ضمن محاولات جماعة الإخوان المسلمين الحاكمة في القاهرة لإضفاء دفء لم يكن ملموسا خلال معظم سنوات حكم الرئيس السابق حسني مبارك على علاقات بلادهم مع باكستان التي استلهم الإخوان أفكارهم من أحد مؤسسيها ومنظري فكرة انسلاخها عن الهند وهو أبو الأعلى المودودي. في باكستان منحت جامعة لاهور الرئيس مرسي درجة الدكتوراه الفخرية في الفلسفة، فألقى الأخير وسط كبار الأكاديميين والعلماء الباكستانيين خطابا حفل بالأخطاء المعلوماتية والتاريخية الفاضحة، الأمر الذي حدا بمثقف مصري كبير كيوسف زيدان إلى القول إن كاتب خطابات الرئيس ارتكب جريمة في حق بلده ورئيسه.
يعود أول اتصال بين البلدين إلى عام 1947 الذي شهد ميلاد الكيان الباكستاني. ففي تلك السنة قام مؤسس باكستان محمد علي جناح بزيارة إلى مصر بدعوة من الملك فاروق الذي كان يسعى وقتئذ إلى نيل تأييد باكستان ومؤسسها لمشروع إحياء الخلافة، خصوصا أن ''جناح'' وحزبه كان من الداعين لذلك. ومن أجل هذا الهدف تحمس فاروق قبل خلعه بعام واحد لإنشاء علاقات دبلوماسية كاملة مع باكستان.
استمرت هذه العلاقات ودية بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952 دون أن تمس أو يطرأ عليها تغيير بفضل مجموعة الضباط الإخوان داخل مجلس قيادة الثورة، بل إن عبد الناصر نفسه، لما صار الآمر الناهي بعد أحداث مارس 1954، حرص أيضا أن تبقى كذلك كتطبيق عملي للدائرة الإسلامية ضمن دوائر علاقات مصر الخارجية الثلاث.
بدأت الشكوك تساور عبد الناصر وتلقي بظلالها على علاقات البلدين في عام 1955 مع نضج مشروع حلف بغداد، الذي بدت باكستان متحمسة له من باب تعزيز قدراتها الدفاعية والاقتصادية في مواجهة الهند فقط، وليس من باب التصدي للزحف الشيوعي نحو منطقة الشرق الأوسط. لكن الزعيم المصري لم يفقد الأمل في إعادة باكستان إلى جادة الصواب. ولما كانت علاقات عبد الناصر مع القادة السعوديين وقتذاك في أوج قوتها وصفائها، ولما كان العاهل السعودي الملك سعود الأول على وشك القيام بأول زيارة رسمية له للهند وباكستان في 1955، فإن عبد الناصر، طبقا لبعض الروايات، حث نظيره السعودي على استخدام صفته كقائد لبلاد الحرمين الشريفين في إقناع الباكستانيين بالعدول عن انضمامهم إلى ذلك المشروع الموسوم بـ''الاستعماري'' في أدبيات الأنظمة العربية الثورية. غير أن الملك سعود لم ينجح في ثني الباكستانيين الذين كانوا قد حزموا أمرهم اقتداء بإيران وتركيا والعراق الملكي.
لم تؤرخ هذه الواقعة لأول خلل في العلاقات الباكستانية – المصرية فحسب، إنما أرخت أيضا لأول توتر في العلاقات الباكستانية – السعودية التي سادها الود والتفاهم على الدوام، خصوصا مع امتعاض الباكستانيين مما قاله العاهل السعودي لنظيره الهندي أثناء حفل استقبال أقيم على شرفه في نيودلهي من أنه ''مطمئن على أن مصالح المسلمين الهنود في أيدٍ أمينة''. هذا الامتعاض الذي ترجم عمليا بقيام الصحافة الباكستانية بشن حملات غير مبررة ضد الرياض، بل خلق أكاذيب حول مواقفها.
وهكذا غلب على علاقات مصر الناصرية مع باكستان عدم الثقة، ولا سيما أن الزعيم المصري كان قد ارتبط وقتها بعلاقات شخصية وفكرية وطيدة مع الزعيم الهندي جواهر لال نهرو. ولعل أبرز دليل على ما اعترى علاقات البلدين من توتر هو أن القاهرة رفضت استقبال رئيس الحكومة الباكستانية وقتذاك شهيد سهراوردي على أراضيها في 1956، ورفضت أيضا مشاركة قوات بلاده ضمن قوات حفظ السلام الأممية المرابطة في قطاع غزة، وذلك ردا على تصريح كان قد أدلى به سهراوردي في أعقاب العدوان الثلاثي على بورسعيد من أن ''العرب لا يساوون شيئا، وأنهم مجرد أصفار على الشمال''.
لكن المشهد تغير فجأة بقيام الانقلاب العسكري الأول في باكستان الذي نفذه قائد الجيش الماريشال محمد أيوب خان في 1958. ففي ظل وجود أصحاب البدلات الكاكية في السلطة في البلدين، حدثت انفراجة كبيرة في علاقاتهما البينية، كان من أبرز شواهدها تردد أيوب خان، (ولاحقا وزير خارجيته ذو الفقار علي بوتو) على القاهرة أكثر من مرة، وقيام عبد الناصر بأول زيارة رسمية لزعيم مصري إلى باكستان في 1960 حينما كان رئيسا لمصر وسورية. وعلى حين كان الزعيم الباكستاني يستهدف إبعاد نظيره المصري عن الهند وزعيمها نهرو، كان عبد الناصر يسعى، دون نجاح يذكر، إلى اكتشاف فرص حل الخلاف الهندي – الباكستاني المزمن كي تكون باكستان والهند داعمتين له معا في سياساته ومشاريعه.
في الحقبة الساداتية، التي بدأت بطرد رموز اليسار المصري من السلطة ثم طرد الخبراء الروس من مصر، سادت الشكوك في النوايا الباكستانية طويلا، وذلك على خلفية التوجهات اليسارية للزعيم الباكستاني الراحل ذو الفقار بوتو، وعلاقاته الوطيدة مع نظيره الليبي معمر القذافي، إلى أن تراجعت تلك الشكوك مع الدعم العسكري المحدود الذي قدمه بوتو لمصر في حرب أكتوبر 1973 عبر إرسال عدد من الفنيين لمساعدة القوات الجوية المصرية، واستقبال سفن حربية مصرية في ميناء كراتشي.
أما في عهد الرئيس السابق حسني مبارك، الذي تزامن ثلثه الأول تقريبا مع وجود الجنرال ضياء الحق في السلطة في باكستان، فقد اتسمت علاقات البلدين بالدفء كنتيجة لتطابق سياساتهما حيال معظم القضايا الدولية والإقليمية، ووجود قاسم مشترك هو روابط التحالف مع واشنطن، ناهيك عن مساندة مصر لباكستان في ملف الجهاد الأفغاني. غير أنه في الثلثين الأخيرين من حكم مبارك عانت العلاقات الباكستانية – المصرية من التوتر الصامت بسبب استياء القاهرة وتذمرها من إيواء واحتضان أجهزة المخابرات العسكرية الباكستانية قيادات جهادية مصرية متهمة بارتكاب أعمال إرهابية داخل مصر، أو التستر عليها أو تسهيل مرورها من وإلى أفغانستان. وبلغ ذلك الاستياء ذروته بتفجير مقر السفارة المصرية في إسلام آباد في 1995 بواسطة سيارة مفخخة على أيدي مجموعة إسلامية متطرفة من المصريين المنتمين إلى تنظيم القاعدة وحركة طالبان الأفغانية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي