المقولات البراقة وتآكل القيم

هطلت في عالم الكتابة في السنوات الأخيرة وبالذات خلال العقد الماضي، كلمات استهلكت مستخدميها واستهلكت قارئها إلى حد التخمة كالشفافية، والتنافسية، الحوكمة، واقتصاد المعرفة.. إلخ، وعلى الجانب الإنساني العام حقوق الإنسان ومواثيق حقوق الطفل والمرأة، وما إلى ذلك من مقولات براقة ظاهرها الرحمة وواقعها يشطبها كأن لم تكن.
إنه لأمر مثير للريبة والدهشة أن حجم الفساد على المستوى العالمي لم يشهد له من قبل مثيلا في ظل هذه المقولات، ليس في بلدان العالم الثالث، وإنما في تلك البلدان المتقدمة، التي "صكت" تلك المقولات.. وليست الأزمة العالمية الاقتصادية الراهنة سوى مظهر حاد لها تناثر على جنباتها فساد المصرفيين الكبار ورجال المال والأعمال ومسؤولي أسواق المال في أعرق دولها.. ولعل الحكاية بدأت مع فضيحة "أنرون"، التي كان يفترض بها أن تكون حصنا محاسبيا رصينا في أن الشفافية عنوانها فإذا هي على العكس تماما منها.
ما يهمنا في عالمنا العربي وبلادنا على وجه الخصوص هو هذا الاستهلاك المفرط لهذه المقولات حتى إننا عقدنا للتنافسية مؤتمرات عدة وأفرطنا في سكب كلمة الشفافية في كل مقال وندوة وحديث ومع ذلك فالتعثر في المشاريع سيد الموقف وسوقنا المالية حارنة في وضع لا يسر والاعتماد تزايد على النفط إلى حد أن أصبح تشنيعا غربيا ضدنا فوق كونه قلقا خاصا عندنا.
غير أن لاستهلاك هذه المقولات جانبا آخر يتمثل في ترويجها في الأساس من قبل مؤسسات وجهات دولية ليس بقصد اقتصادي وعلمي بحت وبحياد تام ونزاهة صرفة، وإنما هي "مهما كانت ذات دلالات علمية"، أشبه ما تكون بأحابيل لمشاريع وعقود تزعم العمل على استفادتنا منها مقابل مال ليس بالقليل لكنه هو الهدف والأساس.. فهذه المؤسسات الدولية لا تقدم لنا سوى تنظيرات واستراتيجيات ورؤى تكاد تكون هي ذاتها في كل مكان مع تغيير اسم البلد ومع أخذها منا ما نحن أعرف به حتى إنه في النهاية يمكننا القول: (هذه بضاعتنا ردت إلينا) لكن بزخرف وتنميق وإخراج يبدو كما لو أنه فتح جديد، بينما هو إعادة إنتاج لما نحن قد قمنا به.
إن مثل هذه المقولات، مهما كانت ذات طابع كوني، لا يتم الترويج لها على هذا النحو المفرط في بلدان الغرب، ولا يتم استهلاكها هناك كما هو حادث عندنا.. وعلينا وحدنا يتوقف تمحيص هذه الحقيقة، فاللهاث وراءها لم يجد شيئا، خصوصا أن من قاموا بتسويقها هم من ينحرونها صباحا ومساء. فنحن في عالم سقط في النفاق إلى حد المخادعة.. فهو يدعو إلى تبني شعارات أو مقولات براقة فيما قيمه ومثله تتآكل.. وليس حجم الفضائح في الفساد واللامبالاة في الشعوب التي تطحن في مجازر يومية والعنف الجنسي، ومافيا الأطفال بين روسيا وأمريكا، فضلا عن فضائح السياسيين والمصرفيين وغيرهم.. ليس ذلك كله سوى دلالة مكثفة على أن الغرب يقول شيئا ويفعل النقيض.. وليس هذا بحسب تفكير المؤامرة، وإنما تحت وطأة عجز الغرب عن علاج ذاته من فصام عريق.. كانت مقولة "العالم الحر" سابقته التي لم تردعه عن استعمار الشعوب.. وهو اليوم يمرر هذه المقولات ويروجها في محنة هذا العجز.. فكيف يشفي غيره من لم يشف نفسه؟!
وكيف لنا أن نمارس اللهاث وراء مقولات على نحو نظري دون أن نقوى على صد هذا التعثر.. وهذا الفساد؟ وسيبقى أن أكثر المقولات حصافة وحكمة وعلمية مثل عدمها طالما هي مجرد "قول على قول"، ولن يفيد منها إلا تلك المؤسسات، التي روجتها باستغلال رنينها في آذاننا رنين دراهم في مصارفهم!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي