أول دولة في الإسلام عاصمة لثقافته
إن مدى زمنياً عمره 1434هـ سنة هو المدى الذي قطعه تاريخ الإسلام منذ هجرة النبي محمد ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ والأنصار معه إلى يثرب، التي أصبحت معروفة من حينه بالمدينة المنوّرة. وشكّل هذا الامتداد التاريخي كثافة نورانية لهذه الأرض المباركة أضاءت أحداق الدنيا بوهج الإيمان ودفء الرحمة عبر رسالة السلام والمحبة التي صدع بها الدين الإسلامي بتعاليمه ومبادئه منذ هبط الوحي على سيد الخلق محمد ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ بمكة المكرّمة.
للمدينة المنوّرة امتيازها الاستثنائي كونها أول دولة في الإسلام أسَّسها خاتم الأنبياء وأشرف المرسلين الرسول محمد ـــ صلوات الله وسلامه عليه، أقامها بعد الهجرة كما تم استهدافها من قِبل الكفار والمشركين آنذاك للقضاء عليها، لكنها تحصنت بخندق حفره الصحابة حولها بمشورة من الصحابي الجليل سلمان الفارسي ــ رضي الله عنه ـــ وسُميت تلك الحرب غزوة الخندق وقد كانت بمنزلة أولى حروب المدن في تاريخ الإسلام وانتصر فيها المسلمون ومنها توسعت الخلافة الإسلامية من ''غانة إلى فرغانة''.
كانت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ''إيسيسكو'' قد أقرّت في 2005 فكرة تناوب المدن الإسلامية لتكون عاصمة للثقافة الإسلامية، على أن تحظى هذه المدن بشرف حمل هذه الأمانة على مدى عام، ويتم توزيع هذا الحمل الثقافي على ثلاث وجهات في الجغرافيا الإسلامية، عاصمة إسلامية آسيوية للدول الإسلامية الآسيوية الواقعة خارج المحيط الآسيوي، وأخرى إفريقية للدول الإسلامية الإفريقية خارج منظومة الدول العربية، وعاصمة إسلامية ثالثة للدول العربية.
كانت مدينة مكة المكرّمة استثناءً شاهقاً لكونها مهبط الوحي وفيها المسجد الحرام والكعبة المشرّفة، فهي قبلة جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛ لذلك اُختيرت عام 2005 (وهو العام الأول لفكرة العواصم الثقافة الإسلامية) لتكون عاصمة ثقافية لكل العالم الإسلامي.. أما اليوم وبعد ثمانية أعوام فتأتي المدينة المنوّرة لتحظى بهذا الاهتمام الثقافي، لكن بمشاركة من عاصمتين أخريين هما ''غزني'' في أفغانستان للإقليم الآسيوي، و''كانو'' في نيجيريا للإقليم الإفريقي، فيما المدينة المنوّرة عاصمة الثقافة الإسلامية في المنطقة العربية لعام 2013.
لا شك أن اختيار المدينة المنوّرة، اليوم، عاصمة ثقافية للعالم الإسلامي لمدة عام يمثل حقاً امتيازاً للعالم الإسلامي نفسه فيها لقداستها الرفيعة جداً كمقر لأول دولة إسلامية على رأسها سيد البشر الرسول محمد ـــ صلى الله عليه وسلم ــ ومعه جليل أصحابه ـــ رضوان الله عليهم؛ ولذلك فالامتياز هو للعالم الإسلامي في أن تكون المدينة المنوّرة بذاتها عاصمة للثقافة الإسلامية، فهو الذي تشرّف بأن تكون المدينة المنوّرة عاصمته بكل ما تحمله من دلالات روحية زكية فيها القيم والتعاليم والمبادئ الإسلامية وكل ما هو لمصلحة الخلق وعمارة هذه الدنيا بالخير والسلام للإنسانية جمعاء.
إنها لأهمية قصوى أن تستثمر فعاليات هذه المناسبة في إعداد الوثائق والبحوث والدراسات والأفلام والموسوعات والبوسترات والكتب لتعريف العالم ــــ بمختلف اللغات ـــ بعقيدتنا الإسلامية وحضارتنا وإبراز تاريخ هذه المدينة منذ نشأتها في العهد النبوي وإعادة قراءته وكذلك ما بعد ذلك التاريخ وإعلاء تجلياته للعالم.
وفي عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، شهدت أكبر توسعة لا نظير لها في المسجد النبوي وساحاته.. إنجازات ينبغي أن تتم خدمتها ثقافياً وإعلامياً، إنه زخمٌ مدهشٌ في كمه ونوعه يشير إلى كنوز ثقافية نادرة بين جنبات المدينة المنوّرة نفسها وإلى ما هو مبثوث في مكتبات ودور علم وجامعات في أنحاء العالم.. وهذه المناسبة فرصة للجمع والتوثيق لوضع كل ذلك مسطوراً في مجلدات بين أيدي المهتمين وكذلك تخزينها في قواعد المعلومات الإلكترونية لمزيد من الانتشار، وكل ذلك سينعكس خدمة ثقافية جليلة تستحقها بجدارة هذه المدينة الطاهرة الأثيرة للإسلام والمسلمين على حد سواء.