في الإقبال على معرض الكتاب!
حين قال جدنا المتنبي: ''وخير جليس في الزمان كتاب!!'' فلأنه كان شغوفاً به حتى قيل إنه كان يتلقفه عند البائعين، يتصفحه بنهم، فيحفظه في لحظات ثم يعيده معتذراً بأنه سبق له أن قرأه .. أما بعض الخلفاء والولاة فقيل إنهم كانوا يعطون مؤلف الكتاب وزنه ذهباً.. فيما تمثلت العناية بجمعه لتأليفه والحرص عليه وحمله والتنقل به على ظهور الدواب، كما فعل أبو الفرج الأصفهاني في ''مروج الذهب''، والبخاري في صحيحه .. لكن الحفاوة بالكتاب بلغت أوجها في إنشاء مقر فخم خاص به هو ''دار الحكمة'' في بغداد أيام المأمون.
في المقابل كان للكتاب لاعنوه وحارقوه ومانعوه، كما سُجن وطُورد ونفي كثيرون بسببه، وسقط من أجله شهداء أشهرهم في ثقافتنا العربية عبد الله بن المقفع، فقد قام سفيان بن معاوية بتقطيع جسده أشلاء وهو حي وقذف بها في نار التنور .. فيما مات أبرز أعلام العرب وهو الجاحظ شهيداً تحت أكوام مكتبته كما يُقال!
أشعل الكتاب حروباً وأثار أمماً وشعوباً وغيّر وجه التاريخ مراراً منذ وُلد محفوراً على الصخر أو منقوشاً على ألواح الطين، كما في ملحمة جلجاش في سومر قبل نحو ثلاثة آلاف عام أو مسطراً على ورق البردي في مصر في فترة مقاربة، إلى أن صار في فاخر الورق وأنيق الطباعة .. أما وقد تحول إلى مارد إلكتروني فقد سدّد ضربته القاضية في انتصار كوني ساحق على كل أشكال الحجب والرقابة كالهواء ليس لمنعه سبيلا!!
اليوم يفتتح للكتاب معرضه السنوي الدولي في الرياض.. الناشرون لا يُخفون ابتهاجهم .. يقولون إنهم يجدون هنا إقبالاً كثيفاً ترتفع فيه أحجام المبيعات بما يفوق كثيراً أمثاله في غيره من المدن العربية، حتى في تلك الدول التي يرتفع عدد السكان فيها أضعاف سكان المملكة، مثل مصر الشقيقة، أو تلك المدن التي كانت منارات ثقافية عريقة وللكتاب فيها إرث راسخ مثل بيروت.
لكن .. هل فعلاً تدل ظاهرة هذا الإقبال الكثيف على ميول قرائية أعلى في السعودية من باقي الأقطار العربية؟ إن الإجابة بنعم تقدم وجهاً من وجوه الحقيقة .. غير أن ذلك لا يفسر الظاهرة دون النظر إلى المعرض من خلال كونه التظاهرة الثقافية التي لا منافس لها من حيث شكلانية الطقس الاجتماعي المسموح به للعموم نساءً ورجالاً في ظل غياب فعّاليات ثقافية جماهيرية أخرى.. فلو كان هذا الجمهور مشبعاً بثقافة نوعية كالسينما أو المسرح أو الحفلات الموسيقية أو الكرنفالات الشعبية وغيرها من فعّاليات بمرافق لها تقدم الثقافة الرفيعة للعموم.. لو كان هذا متاحاً للجمهور معتاداً عليه وعلى مواكبة الجديد فيها لربما اتسم الإقبال على المعرض بغير هذا الاكتظاظ اللافت. ففي كثافة الإقبال الراهنة يختلط محبو القراءة مع أهل الفضول، مع الرغبة في التعويض عن فعّاليات فنية وثقافية مفقودة.. ناهيك عن احتشاد مَن يصرون على فرض الوصاية على عقول البشر بالزجر والمنع .. مع أنه لن يصح إلا الصحيح!!